بقلم الكاتبة الخليجية: زينب علي البحراني
عوَّدت الدراما السوريَّة مُتابعيها في كُل مكان على أن يكون رضا ذائقتهم على رأس أولوياتها، فرغم الظروف المُعقدة التي مرَّ بها هذا البلد العريق ومُجتمعه العظيم إلا أننا مازلنا نُشاهد أعمالاً ذات مستويات راقية تحظى بجماهيرية عالية كُل عام، ولعل من أبرز تلك الأعمال التي نالت حظ المُنافسة في الموسم الرمضاني لهذا العام مُسلسل (ابتسِم أيها الجنرال).
كُتِب سيناريو وحوار (ابتسم أيها الجنرال) باللغة العربية، ما يجعل منه – بمفهوم الاتصال الجماهيري – رسالة فنية عامة موجهة لكل القادرين على فهم هذه اللغة من مُختلف أقطار العالم العربي لا للسوريين فقط، ويَهَب المُشاهد العربي من أي مكان حق مُشاهدته والاستمتاع بتتابُع أحداثه وتذوُّق صور الجمال في حواراته.
وإذا كان للمُشاهد السوري توقعاته الخاصة وتخميناته تجاه أي مُسلسل يُقدَّم بلهجته المحكيَّة باعتباره الأكثر قربًا من تاريخه وظروف مجتمعه وعاداته وتقاليده؛ فإن للمُشاهد غير السوري زوايا رؤيته التي قد تتسِم بنظرة أكثر حياديَّة لتفاصيل العمل الفني باعتباره يُشاهده دون تخمينات أو توقعاتٍ مُسبقة، وانطلاقًا من هذه النقطة سنطرح وجهة نظرنا للمسلسل بعين غير سورية بعيدة عن المؤثرات الواقعة خارج نِطاق حدود العمل الفني المُجرَّد.
هذا العمل الفني بما فيه من جماليات سمعية بصرية هو هدية للمشاهد العربي المُتمكن من تذوق الفن، فمنذ شارة البداية نلحظ أن صُنَّاع هذا العمل يتعاملون مع المُشاهد باعتباره (راشِدًا) لا باعتباره (قاصرًا) أو (فاقدًا الأهليَّة)، نحن أمام شارة رصينة خالية من الألوان والأصوات التي تستهدف تشتيت عقل المُشاهد وحواسه بأسلوبٍ عشوائي، ثم نجد أنفسنا في بداية كل حلقة أمام إحدى مقولات المفكر الإيطالي (ميكافيللي) الذي يُعتبر كتابه (الأمير) من أهم مراجع علم السياسة، قبل أن ننتقل إلى مشاهِد القصة التي تدور أحداثها بأسلوبٍ يحترم فِكر المُشاهِد ومشاعره مهما كان مستوى تعليمه أو ثقافته أو طبقته المُجتمعية، وهى مسألةٌ أصبح المُشاهد العربي يفتقدها وتشتاق ذائقته لها مع موجة المسلسلات العربية التي تعتبره مُجرد (مُستهلِك) ذو وعي مُنخفض وثقافة شحيحة و (عقله على أده)، ويجب أن يحمد ربه لأنهم سلقوا له بضعة مشاهد سطحية تليق بمستواه الفكري المُتدني!
ظهور عدد من الوجوه الجديدة نُقطةٌ تُحسب للمسلسل ومُخرجه لا عليه؛ إذ إضافةً إلى أن ظروف صناعة هذا العمل تجعل من كُل ممثليه وجوهًا معروفةً أمرًا أقرب إلى المُستحيل؛ من الطبيعي أن يتضمن كُل مسلسل عددًا من الوجوه الجديدة التي يتم انتقاءها وتدريبها ثم اعطائها فرصة الظهور على الشاشة؛ أما ظاهِرة الاعتماد الكُلي على الوجوه المعروفة وحرمان الوجوه الجديدة من الظهور فهي ظاهِرة غير صحيِّة اعتمدها بعض مُخرجي الدراما في السنوات الأخيرة من باب ما يمكن اعتباره استسهالاً وتكاسلاً عن تدريب ممثل جديد.
امتازت لُغة الحوار في المسلسل بكونها راقية مُهذبة تحترم سمع المُشاهد من جهة، وتُراعي مستوى الطبقة المُجتمعية التي يدور الحوار على لسانها.. ففي مشهد اجتماع الأم مع أبنائها الثلاثة في الحلقة السادسة ليُقسموا على ما طلبتهُ منهم؛ نلحظ أنها ردت على البنت بقولها: “أنتِ اسمعي وبس” بدل أن يأتي ردٌ من نوع: (أنتِ اخرسي) أو حتى (أنتِ اسكتي)، كما نلحظُ قدرًا لا بأس به من التشابيه والمجازات والكنايات والاستعارات التي تليق بمستوى الأحداث والشخصيات المُتحدثة، نذكر على سبيل المثال حوار شخصية الأخ الأكبر (فُرات) مع شقيقته حين قال: (اللي بدو يشرب من نبعنا لازم نكون رضيانين عليه)، مُلمحًا إلى عدم قبول دخول عنصر جديد غير مقبول في العائلة، وحين قال: (أقسم بالله إذا بتنطوطي عالحبل لأشنقك فيه) في إشارة للعقاب الذي ستتلقاه إن اختارت خيارًا لا يرضاه دون علمه.
ونقف وقفة إعجاب أمام حديثه مع الضابط الذي اختاره لمهمة سريَّة في الحلقة السابعة حين قال له: (أنا بحاجة لعين مُخلِصة ما إحتاج إقلعها إذا تعب نظرها)، فيأتيه رد الضابط على الوتيرة ذاتها: (عينك ما بتتعب ولا بيخف نظرها سيدي)، ويستوقفنا رد شخصية (خاطر) على (ماريَّا) حين أعربت عن دهشتها تجاه توريطه ذاته في حكايتهم المُعقدة في الحلقة السابعة: (انتي بتلعبي مع كتله كبيره من الأدرينالين، يعني متعة ما بعدها مُتعة!).
مثل هذا النص الفخم ليسَ غريبًا على كاتب سيناريو بمستوى (سامر رضوان) قدَّم للمُشاهد العربي عملاً بفخامة (الولادة من الخاصِرة)، ومما يُحسب للمُسلسل أيَضًا الحضور الواضح للكتب الورقية والكتابة بخط اليد، ما أضفى على المشاهِد مذاقًا راقيًا بتنا نفتقر إليه في الأعمال العربية رغم حضوره في كثير من الأعمال الدرامية العالمية، ربما كانت الفترة التي تدور فيها أحداث السيناريو قبل تغوُّل التكنولوجيا ووسائل الاتصال وهو ما تُشير إليه أشكال الهواتف المُستخدمة خلال المَشاهِد؛ لكن وجود الكتاب الورقي في أي عملٍ درامي يُقدم للمُشاهِد اليوم يدل على مستوى رفيع من الذوق والإبداع.
لقد أبدعَ الممثلون جميعًا وفريق صناعة العمل كله بقيادة المُخرج (عروة محمد)، ونجحوا في تقديم عمل درامي عربي بمُعالجة فنية لا تقل عن مستوى أي مسلسل عالمي بدءًا من فخامة العنوان الروائي، عملٌ لم يخذل سمع وبصر المُشاهد العربي وذوقه الذي باتَ واثقًا بمستوى الدراما السورية التي تحترم عقله وذائقته.