كتب: محمد حبوشة
على الرغم من تعدد الكثير من المصادر التي من الممكن أن يعتمد عليها القائمون على العمل في إخراجهم حبكة درامية من النوع الملحمي الكبير، إلا أن النجاح لم يحالفهم طوال الوقت جراء الأخطاء التاريخية على مستوى الأحداث والملابس والديكور وغيرها من عناصر فنية يمكن أن تحسي لهذا العمل الكبير، وعلى الرغم من الإشادة الكبيرة التي تلقاها مسلسل (سره الباتع) من ناحية حبكة القصة وأداء الممثلين من جانب بعض رواد التواصل الاجتماعي، فإنه أيضا نال الكثير من الانتقادات بسبب الأخطاء التاريخية القاتلة التي وقع فيها في بعض الأحداث.
وتدور أحداث القصة حول (السلطان حامد)، الذي نحاول اكتشاف سره طول الأحداث، على يد الشخصية الرئيسية، وهو الطفل الصغير الذي يتعلق بهذا السر ويحاول فك معالمه منذ نجاحه في امتحانه الدراسي وإقناع جده له أن (يوفي النذر) لـ (السلطان حامد)، ويضيء مجموعة من الشموع عند الضريح القابع وسط جبانة القرية.
يشغل السر وراء (السلطان حامد) عقل الطفل ليتحول الأمر إلى سؤال ضخم يلتهم رأسه لدرجة بلغت به أنه انقطع عن الطعام نتيجة لكثرة التفكير، ومع مرور الأيام والسنين أصبح السؤال شبحا يطارده يأتي كل فترة ويواجهه، وحاول في إحدى المرات أن يكتشف هذا العالم السري الذي يأتي له الناس من كل مكان لزيارة ووفاء نذر (السلطان حامد).
يتضح كل ذلك في تأثير بيئة يوسف إدريس الريفية، هو مواليد قرية (السيروم) في محافظة الشرقية، على معرفته القوية والعميقة بعادات الأفراد في القرى قديما وطرق نذرهم وتوسلاتهم وحبهم للأضرحة، والطفل عند يوسف إدريس شخصية جيدة للسرد والتوظيف الدرامي.
تقول الباحثة هبة محمد عبدالفتاح، في رسالة الدكتوراه الخاصة بها (شخصية الطفل في القصة القصيرة بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ)، في إطار الحدث برز الطفل عند (يوسف إدريس) بوصفه فاعلا محوريا، معبرا عن عوالم الطفولة والمراهقة وكأنه جانب مقتطع من الحياة، في حبكة شديدة الإثارة والتشويق، تستلهم الواقع الطفولي وتستند إليه في مسارات سردية وتوترات درامية، احتدمت عند الذروة وهدأت عند النهاية والحل، توازن فيها فعل الطفل مع قوة الحدث.
والمتتبع لقصص يوسف إدريس، يجده يولي اهتماما كبيرا للفلاح وحياة القرى الريفية، تماما كما اهتم في (سره الباتع)، فقد اهتم (إدريس) بالتغيير في وعي الفرد ومشاعره أكثر من اهتمامه بالتغيير الجماعي وتصوره للكتابة متحرر بلا حدود، وهو نفسه كان كاتبا متحررا بطبعه ومع الشعب ضد الظلم والقهر والتخلف، ومن الواضح أنه كان ضد استرقاق الفلاحين ومع الحرية بكل صورها البارزة في قصصه وكان النفاذ إلى عمل الفلاحين ورؤية عالمهم بعيونهم) بحسب ما ورد في كتاب نبيل فرج (مواقف ثقافية).
قد تظن في البداية أن قصة (سره الباتع) تثير تساؤلات كبرى عن الإيمان والشك ومدى حق الإنسان في السؤال مهما كان السؤال والبحث عن إجابات مرضية لعقله ومنطقه، في النصف الأول من العمل من خلال التركيز على الحالة الوجودية التي صابت الطفل وتساؤلاته عن كيف يقدس الناس فردا لا يعرفوا قصته على الأقل، وفي جزء آخر نرى كيف يهول الناس الحقائق ويصنعون منها أساطير تتناقل عبر الأجيال وتضاف لها تفاصيل تجعلها أكثر إثارة.
يتضح ذلك في الجزء الذي تحدث فيه أحد تابعي (أبناء السلطان حامد) أي محبينه، عندما قص حكاية حامد أنه قهر الكفار وظل يحاربهم وفي كل مرة يقطع جزءا من جسده في بلدة مختلفة أثناء حربه معهم حتى تقطع جسده كاملا، بينما الحقيقة التي وصل لها البطل أن حامد شخصيا حاول أخذ حقه بقتل جندي بعد مقتل أحد الفلاحين، وأن (كليبر) هو من أمر بتقطيع جسد حامد بعد أيام طويلة من البحث عنه لكي يتخلص من حب الناس له.
ثم في مرحلة أخرى قد تظن أن القصة تتحدث بفخر عن شجاعة الفلاح المصري وصلابته في وجه العدوان وكأنها قصة وطنية من الدرجة الأولى، وغيرها من مستويات التلقي والتأويلات التي يفرضها النص الجيد النابع من قدرة يوسف إدريس الإبداعية التي كتبت فيها مئات الأبحاث الأدبية، لكن لوجه الحقيقة حاول المخرج (خالد يوسف) تفكيك القصة وخلق شخصيات كثيرة جديدة في حبكته الدرامية التي صنع من خلالها (كادرات سينمائية) رائعة حاول من خلالها صنع نوع من الثراء الدرامي، كما اتضح لنا في المشهد الأخير من الحلقة السادسة من المسلسل، والتي تتجلى فيها لحظات الحب الأسطورية بين حامد وصافية كما جاء في المشهد على النحو التالي:
رغم وعده لأبيه الذي قطعه على نفسه بعدم رؤيتها إلا أن الشوق غلبهما، فقدم كل من (أحمد السعدني وحنان مطاوع) أجمل مشاهد مسلسل (سره الباتع) حتى الآن وسط الغيوم وزخات المطر الخفيف تحت الشجرة التي كانا يتواعدان تحتها دائما وفي ظلها يتناجيان كعاشقين كتبت عليهم الظروف الفرقة، ويبدأ المشهد الذي يعد (ماستر سين) الحلقات الستة، بجلوس (صافية) تحت الشجرة التي كثيرا ما شهدت حبهما، وعندما همت بالرحيل لمحت (حامد) قادما ليضع عباية على كتفها تقيها من المطر الذي بدأ ينهمر.
صافية بعد ارتسمت على وجهها علامات الفرح بقدوم حامد مرددة : حامد.. حامد.. حامد حبيبي.. جاي بالصدفة وجايب عباية معاك تحميني من المطر؟
حامد: مش بالصدفة ياصافية.. أنا مفيش يوم ماجيتش فيه.. كل يوم باجي في نفس ميعادنا.. باقف أطل ليكي لحد ما تمشي.
صافية: ولحد امتى حنفضل نعذب روحنا.. مفيش حاجة تقدر تفرقنا ياحامد.
حامد: أبوكي قالي ما شوفكيش تاني وأنا اديته كلمة.. وكلمة الراجل سيف على رقبته.. عهد يا صافية وأخدته على نفسي.
صافية: العهد اللي يفرق قلوب بتحب بعض.. ربنا ولف قلوبهم وهما عيال يبقى عهد باطل يا حامد.. انت أناني قوي.. مبتفكرش غير في روحك.. بتكلمني عن السيف اللي على رقبتك.. طب والسيف اللي على رقبتي أنا.. ده مش سيف واحد.. لأ دول سيوف.. كل يومين حد يتقدم لأبويا.. وكل واحد أطلع فيه القطط الفاطسة وفيهم رجالة ما تترفضش.. رجالة ملو العين بس مش حامد .. مش اللي أنا باحبه.. واللي باحبه أناني ميفكرش غير في روحه.
وتستطرد صافية: مشغول أوي بالعهد اللي أبويا واخده عليك.. طب والعهد اللي بيني وبينك.. وكلامك ليا.. مش ده برضه عهد ياحامد.. إن نكون بعض مش ده برضك عهد يا حامد.
حامد: عهد يا صافية عهد.. وكتاب الله لو تعرفي دموعك اللي نازلة غالية أد ايه مكنتيش سبتيهم ينزلوا.
وينتهي المشهد باحتواء حامد لصافية ويضمها في حضه بشوق جارف.. باكيان على حبهما الذي لا يصل ألى نتيجة طبيعية بالزواج.