بقلم الإعلامي: أسامة كامل
أرجو عدم انتقاد الأعمال الفنية، هى جزء من قوة مصر الناعمة التي تتضاءل وتتآكل، كما أنها بوابة اقتصادية واجتماعية للعديد من الفنانين والفنيين في ظل الظروف الصعبة ومنافسة حامية من دول و قوى عظمى!
عشت حياة جميلة علي طول خط الخريطة المصرية بحكم عمل الوالد (ضابط شرطة) الذي لم يستقر في بلد واحد سنوات طويلة، وابتدينا من القاهرة التي ولدت بها ثم إلى مراكز و أقسام الدقهلية وإلي سوهاج، ثم إلى دمياط والعودة للقاهرة.
وكل رمضان له مذاق وطعم خاص، ولكن يظل الراديو هو البطل في حكايتنا ولايزال الراديو له مذاق خاص حتي وأنا في السيارة، وكانت لبرامجه ومحطاته أهمية كبيرة في حياتي، ونحن صغار وفي رمضان كنا نلهث وراء برامجه ومسلسلاته وحكايته، وكانت (ألف ليلة وليلة) تأليف وترجمة طاهر أبو فاشا وإخراج محمد محمود شعبان، وبطولة (زوزو نبيل، وعبد الرحيم الزرقاني).
هى الخيال و الوهم الجميل والحدوتة و الرواية لقد أثرت هذه الحكايات في وجدان الشعب المصري وكنا ننتظر على أر من الجمر و ندعو الله الا تنتهي أبدا.
وأتذكر أننا كنا في بلاد وقرى ليس بها كهرباء في الستينات وأوائل السبعينات ونذهب الي بيوت العمد أو المشايخ من أجل سماع برامج الراديو أبو بطارية في عز الظلام الدامس، وظللت على هذا الحال سنوات طويلة حتي صدمنا بالهزيمة في حرب 67، وظللنا نتابع محطة الـ (بي بي سي) التي كانت صادقة وموضوعية بعد أن فقدنا الثقة في كل وسائل الإعلام المصرية ردحا من الزمن .
وكان مسلسل فؤاد المهندس وشويكار مدعاة للفرح و الضحك و السرور في موعده الدقيق بإذاعة البرنامج العام ثم مسلسل أمين الهنيدي وصفاء ابو السعود في صوت العرب و أخيرا مسلسلات إذاعة الشرق الأوسط التي يقدمها محمد علوان وسمير عبد العظيم، وهى اقرب إلى الأفلام السينمائية من بطولة شادية وفاتن حمامة وصباح وسعاد حسني، وأحيانا محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ، ومحمود ياسين و عادل إمام و غيرهم.
كان الراديو وسيلة إعلام وإعلان الشعب المصري بعد أن فقد دوره وأصبح جهاز لإذاعة الأغاني فقط بدون أي محتوي إعلامي ودرامي، حتي إذاعة راديو زمان التي كانت تذيع درر الإذاعة المصرية محوها من الخريطة لأسباب مجهولة وربما لمحو ذاكرة الأمة المصرية كلها، وإن كانت إذاعة (أون الرياضية) التي حلت محل (إذاعة الشباب والرياضة) بمزيد من التطور والتقدم وأيضا الإعلانات ، وكانت إذاعة القرآن الكريم تقدم كبار المقرئين والمناسبات الخارجية وأيضا كبار العلماء والشيوخ أصبحت هى الأخرى أيضا تحت التوجيه.
وكانت إذاعة الشرق الأوسط الشابة الخفيفة التي تشدك حتي (حكايات نص الليل) المخيفة وإيناس جوهر وإمام عمر وغيرهم من النجوم قد بات ذلك من الماضي، وحينما تنتبه إلى إذاعة البرنامج العام الأخبار والتحاليل السياسية البسيطة وتلف بك الكرة الأرضية في سهولة ويسر، وتقدم قصص كبار الكتاب بعد إذاعة أخبار الساعة 5 شهريا وأغرب القضايا الممتعة والغريبة.
وإذاعة صوت العرب المختلفة والممنهجة عربيا وإقليميا، وكان جهاز التليفزيون هو الصندوق السحري الذي شد عقولنا و فتح أبواب كثيرة كانت مغلقة عهود طويلة، وأصبحنا نشاهد النجوم والفنانين وهم يقدمون أعمالا رائعة طوال شهر رمضان وهو حدث يستوجب التفرغ و الانتباه، و للعلم كان في مصر وزارة إعلام تحتل مكانة مرموقة في كل العهود حتي تم فصل الوزير وتجميد الوزارة لأسباب غير معروفة، وإن كان ذلك ليس في مصلحة الدولة المصرية.
ربما يشدنا الماضي كثيرا ولكن الحاضر ليس فيه ما يذكر، ومع ذلك يظل الراديو المصري له مكانة في قلوبنا وعقولنا، وحال التليفزيون غريب بعض الشيء، بعد أن تنازل طواعية عن مكانته السامية إلى إعلام آخر مختلف أو غريب بغرابة شديدة.
تظل مصر حبلى بالأفكار والعقول والنجوم و الفنانين مهما كانت التحديات، حينما ظهرت الإذاعة المصرية أوائل القرن العشرين، قدمت (أم كلثوم، عبد الوهاب، طه حسين، عباس العقاد، فكري أباظة)، واستمع الناس إلى أصوات (الشيخ محمد رفعت، مصطفى إسماعيل، عبد الباسط عبد الصمد، والحصري)، وإنشاد (الشيخ علي محمود، وطوبار، والنقشبندي).
إن مجرد الوصول إلى بوابة الإذاعة شرف لا يضاهيه شرف، والبداية لكل النجوم في كافة القطاعات ،وكانت قصص (إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، ثروت أباظة) تربي وتنمي الأحاسيس والمشاعر، وتأملات (مصطفي محمود والغزالي) تمثل انفتاحا على أفكار لم تكن مطروحة من قبل، بل إن مقال محمد حسنين هيكل (بصراحة) الذي يصدر يوم الجمعة يعاد بعد نشرات الأخبار، لأنه يمثل توجه سياسي للدولة المصرية، وينقل إلى كل القنوات والصحف العربية و الدولية.
كانت العلاقة وثيقة بين الصحافة والإعلام والثقافة في كل العصور، كان هناك نسقا وتنسيقا لكل الأجهزة في سيمفونية موحدة لا يشذ أحدا مهما كانت حجم الحريات الممنوحة والمقتنصة.
لقد شهد مبني الإذاعة في الشريفين ومبني ماسبيرو على ضفاف النيل إلى حين قريب أياما خالدة وأوقاتا عصيبة ونجاحات فارقة.. كنا نتابع انتصارات حرب أكتوبر المجيدة على صوت الاذاعة المصرية، وكان الدكتور (حاتم) يحرص علي الدقة والموضوعية بدون مبالغة ولا تهوين ولا تقصير .
جرعات قليلة مركزة إلى عقل وقلب كل مصري وعربي، و في كل الأحوال تغيرت النبرة تماما ، وكانت إذاعة لندن تنقل عن إذاعة القاهرة في هذه المرة، واستطاع (صفوت الشريف) أن ينقل الإعلام المصري نقلة مختلفة و إحداث تطور غير مسبوق، وإنشاء (مدينة الإنتاج الاعلامي) وأحدث الأستوديوهات والدخول في عالم الأقمار الصناعية.
وأصبحت قوة مصر الناعمة حقيقة وليست رمزا، حتي قامت نكسة 25 يناير 2011، وينتهي عصرا من الشموخ والرقي وأبواب حرية إعلامية غير مسبوقة، وأظن أن القيادة المصرية حاولت أن تنشئ إعلاما جديدا، ومن خلال أفكار لم تتبلور حتى الآن نظرا لظروف صعبة وعسيرة من محاربة الإرهاب وسيطرة الأفكار الرجعية والوهابية التي تغلغلت في أعماق مصر، وهو ما يستلزم إعادة مصر والمصريين إلى طبيعتهم الطيبة المتسامحة والوسطية في وقت ليس بالقصير.
وأظن أن الإعلام والصحافة في مصر في حاجة إلي مراجعة شاملة، وإبراز شخصيات وعقليات تشد مصر من هذا الانسحاق والذاتيه والأنانية.. مصر في حاجة إلى أيد قوية وعقليات و أفكار صادقة وأمينة.