بقلم: علا السنجري
عندما كتبت عن الغرفة 207 ذكرت أن الزمن انقسم إلى زمن ما قبل الغرفة وزمن ما بعدها، فقد غيرت مفاهيم الإبداع إلى عمل متكامل في كل عناصره، أما بالنسبة للأعمال الكوميدية فكانت بارقة الامل في (إيجار قديم، وموضوع عائلي)، فكل عمل منهما اعتمد على كوميديا الموقف بلا إسفاف أو سخرية من الآخرين أو إفيهات مواقع التواصل الاجتماعي، ويأتي مسلسل (بالطو) ليؤكد أن هناك كوميديا نظيفة بلا تنمر أو استظراف، ليصبح علامة فارقة يجعل الجميع يتابعه ويكتب عنه، ورغم قصر مدة العمل لعشر حلقات إلا أنه نجح في جذب انتباه الناس لمتابعته.
(بالطو) لم يكن هنا فقط رمز مهنة سامية، ولكنه في هذا العمل الدرامي يعبر عن جيل تائه يرتدي بالطو آخرين، واسع، ليس مقاسه، لأنه يرتدي ما يفرضه الآباء من طموحات على مستقبل أولادهم، وربما يرتدي ما يفرضه المجموع ومكاتب التنسيق، وتكون النتيجة شباب بلا تميز وتفوق في مجال عملهم، لأنهم بكل بساطة اعتمدوا نظام الحفظ دون وعي أو فهم، أو أن يحبوا ما يدرسون، مما أفرز جيل كامل من أشباه وأنصاف متعلمين ومواهب، لا ابتكار حقيقي.
نجح السيناريست (أحمد عاطف) في التعبير عن تجربته والتي تعبر عن جيله، جيل من أصحاب شهادات كليات القمة دون خبرة أو علم حقيقي رغم تفوقهم في الدرجات، وذلك من خلال عمل كوميدي خفيف خال من أي ألفاظ خارجة، خالي من سذاجة ومواقف مفتعلة، لتبدأ الأحداث مع البطل (عاطف) الذي أعده والده منذ صغره ليكون طبيبا، ويحقق حلم والده وتخرج في كلية الطب، لكن يتم توزيع تكليفه في قرية نائية (طرشوخ الليف)، مما يجعله يعترض ويحاول النقل لكنه يتفاجأ بوفاة مدير الوحدة، ليصبح هو المدير وهو لا يعرف شيء عن الإدارة واللوائح، يحاول الأستاذ (عبد البديع/ محمد محمود) المسئول عن الحضور والانصراف مساعدته، ورئيسة الممرضات (ميس كوثر/ عارفة عبد الرسول) الصارمة، ليصطدم بدكتور طبيب الأسنان (سمير/ محمود حافظ) الذي يحاول التودد للدكتورة الصيدلية (هاجر/ مريم الجندي) وهىترفضه.
كما يواجه دجال القرية (الشيخ مرزوق/ محمود البزاوي)، الذي يعالج أهل القرية و يطفيء الحرائق بطرق غريبة، ويبلغ عنه الشرطة، إلا أنه لا يوجد دليل ضده، يكتشف (عاطف) بأن (سمير) و(الشيخ مبروك) هما السبب في مشاكله وفي تحقيق النيابة الادارية بعدما حول الوحدة الصحية لسوق وسيرك، يقرر عاطف الرحيل عن الوحدة بعدما ظهرت الحقيقة، لكن يحدث حادث أليم على الطريق يجعله يعود للوحدة ﻹنقاذ المصابين، ويعود لتولي الإدارة مجددا.
من وجهة نظري مسلسل (بالطو) فنتازيا تأخذك في حالة من الكوميديا بلا إسفاف أو استخفاف، كما أنه يقدم بطل عادي بلا صفات خارقة أو استعراض لقوته البدنية، بل هو شخص عادي، شخص بسيط، ضعيف أحيانا وجبان وربما يكذب، يدخل في صراعات أكبر من قدراته مع الدجل والشعوذة والطمع، هنا يجب الإشادة بالسيناريو المكتوب بعناية، أحداث متتابعة بمنطقية، تمكن شديد من الكتابة الكوميدية والتي يعتبرها البعض أصعب أنواع الكتابة.
يكتمل نجاح السيناريو بمخرج يتفهم الطبيعة المختلفة للنص، مخرج يعرف جيدا انه يحمل اسم جده المهندس (الأستاذ) واحد من أهم فناني الكوميديا ومؤسسيها وله مدرسة تدرس لليوم، تفوق عمر المهندس في أول عمل له في الإخراج، ليقدم لنا صورة بلا فذلكة شديدة، يفك بها طلاسم صراعات (عاطف) مع الخير والشر، يقدم صورة بسيطة تعبر طبيعة الحياة الريفية، البيوت البسيطة والملابس العادية والمساحات الخضراء للقرية، مثل مشهد فضفضة عاطف البطل مع (عم محمد) الصامت الذي يسمعه فقط دون مناقشة لكنه معبر جدا، كذلك مشهد الحوار مع الحمار، ساعده في ذلك مدير التصوير شريف جلال وإدارة جيدة للكادرات والزوايا، وكذلك المونتاج لكمال الملاخ.
الاختيار للممثلين جيد جدا، فهم شبه من يشاهد العمل، أشخاص عاديون، بلا شد وجه أو بوتوكس، وكما جاء على الصفحة الشخصية للفنانة عارفة عبد الرسول: (المخرج داخ عشان يلاقى بنت شبهنا من طبقه متوسطه ومن مدينة في الريف تبقى دكتورة فى وحدة صحية فى أرياف برضه.. كل البنات لاعبة فى شكلها وتاتو وشفايف وحواجب، كلهم دكتور تجميل واحد عامل قالب واحد)، لذلك جاء اختيار (مريم الجندي) ممتاز جدا ،وجه بملامح مصرية وتلقائية في الأداء .
أكثر ما شد انتباهي في هذا العمل هو التمثيل الهادىء بلا صوت عال وأداء انفعالي زائد يجعل المشاهد لا يحتاج لفهم كلمات الحوار، الملابس اختيارها جيد جدا متناسبة مع طبيعة القرية، الموسيقي لمحمد أبو ذكري مناسبة ومعبرة وخفيفة بلحن مميز، من وجهة نظري هذا العمل مميز بكل العاملين فيه سواء أمام الكاميرا أو خلفها.
الممثل (عصام عمر) كتب بهذا الدور مكانة جيدة بين أبناء جيله ليكون مختلف بأداء معبر عن سذاجة شخصيته وإصراره على التفوق لإرضاء والده، ليقدم شخصية مهزوزة وضعيفة ، و صراع التائه بين ما يريده والواقع الذي فرض عليه.
عارفة عبد الرسول (العسلية الجبارة) كما احب أن اطلق عليها، قدمت (ميس كوثر) بثقل إبداعي غير عادي، تمتلك موهبة غير عادية في التقمص، ولما لا وهى لديها مخزون ثقافي وفني كبير، لتقدم كبيرة الممرضات ذات تاريخ من الخبرة، ملتزمة التزام صارم في العمل، قدرة على العمل الإداري، (عارفة) بسلاسة وبمنتهي البساطة جعلت المشاهد ينسى أنها (عارفة) ويتذكر فقط كونها (ميس كوثر) التي يهابها الجميع.
الفنان (محمد محمود) عبقري الأداء السهل الصعب، قدم (عبد البديع) مسئول الحضور والانصراف ببراعة، يقف بجانب الطبيب الشاب يساعده بحضور طاغ وكوميديا تلقائية.
الفنان (محمود البزاوي) إلى الان لم يكرر أدواره أو يقع في فخ التكرار والنمطية، بل في كل عمل يثبت أنه فنان قدير قادر على جذب انتباه المشاهد بأدائه، ليقدم (الشيخ مرزوق) الذي يقدم الخرافة والشعوذة بأسلوبه الساحر ليتبعه كل أهل القرية.
ظهور قوي ونجومية رائعة مهما كان عدد المشاهد في الحلقة الأولى للفنان (محمد رضوان) والد عاطف، الذي يعتبر المؤثر الرئيسي في تحديد مستقبله، رسم البالطو لابنه من صغره وفرض عليه الطب، حتى اللعب لم تكن سوى لعبة الدكتور، كذلك الفنانة (لاشينة لاشين) في دور الأم رغم صغره إلا أنها أجادته، أيضا (دنيا سامي) كانت رائعة.
ضيوف الشرف كانوا إضافة كبيرة للعمل وإثبات كبير لنجوميتهم، وتأكيد أن الدور ليس بحجمه ولكن بتأثيره، وهو ما حدث تماما مع (خالد الصاوي، محمد لطفي وسلوى خطاب).
الفنان (رضا إدريس) هنا يعيد نجوميته رغم مشاهده القليلة، بعدما وقع في أدوار مكررة، ليقدم الموظف الإداري الذي يساعد على الفساد، و من فقد استعاد نجوميته.
هناك مشاهد صنعت نجوم وسلطت الضوء عليها أكثر مثل الممثل الشاب (محمد السويسي) في أداء رمضان المدمن والحرامي، الذي يثبت (عاطف) كل فترة للحصول على النقود، يعبر عن فوضوية بعض الشباب بين الوقوع في بئر الإدمان لكن بداخله صراع ليكون أفضل، ليظهر معدنه في المساعدة بعد وقوع الحادثة.
مما يحسب للسيناريو النهاية المنطقية جدا، لم يتغير شيء، ولم ينتصر الخير بشكل كامل على الشر،عودة (عاطف) للوحدة بعد انكسار ليثبت مهارته كطبيب في إنقاذ جرحى الحادث، وعندما انقذ (الشيخ مرزوق) لم يفرح لأن الجهل لم يرى إنجازه.
النهاية أعطت حكمة بلا مواعظ مباشرة، وهى أن نتعلم من الأخطاء، ونتعامل مع المواقف بذكاء وبالمواجهة، مما يدفع (عاطف) لفتح الغرفة المظلمة، وفي النهاية (بالطو) نجح في تقديم كوميديا تعيد للدراما المصرية رونق الريادة بلا استنساخ أو تقليد.