بقلم: محمد شمروخ
ليس مجرد البذاءة ولا البلطجة هى التى جسدها فيديو السيدة التى كانت تطارد جارها بعصا تريد الاعتداء عليه مع وابل من الشتائم، فكل ذلك نراه ونعايشه بشكل يومى، حتى ظهور أنثى بكل هذه الجراءة في التعدى على الناس، لم يعد غريبا.
فسيول البلطجة والبذاءات مفعم بأشكالها الشارع القاهرى بشكل مفزع، فانظر مثلا إلى قائدى السيارات في الشوارع المزدحمة وإشارات المرور واستمع إلى مشاجراتهم دون أن تكلف نفسك عناء البحث عن أسبابها.
ومع أنى لدى يقين راسخ بأن الارتقاء الاقتصادى أو الرفعة الاجتماعية في بلادى لا يحولان دون البلطجة والتبذؤ، بل قد يشجعان عليهما، لكن مع ذلك، فليس ما حواه الفيديو قضيتى الآن، بل أدعوك إلى النظرة الأعمق للأمور.
فالجريمة وقعت في تجمع سكنى من تلك التجمعات التى صارت هى النموذج الأمثل منذ ما يقرب من ثلث قرن، وهى التى يطلق عليها (كمباوندات).
وحين انتشار تلك التجمعات، تم اختيارها بعيدا عن الكتل السكانية قدر المستطاع، مع تسويرها ووضع نظام أمنى شديد الحراسة خاص بها، يكفل لساكنيها العيش بسلام بعيدا عما يعكر صفو حياتهم.
وتلك النماذج جاءت إثر عودة الفئات المميزة من العمل بالخارج والتى يمكن أن تكون قد استوحته من المشروعات السكنية التى كانت مقار إقاماتهم في بلاد الغربة.
نموذج فرضته ظروف العمل في الخارج في مشروعات الصناعة والتعدين في عمق الصحراء والتى تنشأ حولها مجتمعات عمرانيىة تبدأ بالعاملين فيها الذين تحرص على حصر مساكنهم داخل سور حتى توفر لهم الأمان مع تقديم الخدمات المميزة.
وعندما عاد البعض وكانوا قد ارتقوا بما ادخروه من نتاج العمل، إلى درجات اجتماعية أعلى، فكان لابد لهم ولأبنائهم من التميز السكنى على عادة التمايز الاجتماعى القائم على تقسيم المجتمع لمستويات متدرجة تبعا للدخول والثقافة والوظيفة.
فمع ازدحام المدن والأحياء التى تصنف (راقية) تم نقل فكرة (الكمباوند) وتطبيقها على الواقع المعيشي في القاهرة والجيزة، ثم بدأت الزحف إلى بقية المدن، حيث تبدو القاهرة وضواحيها كقاطرة اجتماعية عملاقة تشد باقى مصر إلى اتباع سبلها شدا.
وبالطبع لم تلتزم هذه الأماكن المبتدعة بشروط النموذج الأصلي في أصل بلاده في الخارج، إذ لم يعد مشروطا الاتحاد المهنى الفئوى ولا ضرورة وجود مشروع صناعى أو تعديني.
ولما فرض الاستثمار العقارى هذا النموذج، خاطب من خلال إعلانه الطبيعة النفسية للناس التواقة إلى التميز والشعور بأنهم من (الصفوة).
وأذكر أننى مع بداية انتشار الإعلانات عن هذه الأماكن كمنتجعات سكنية، أن أثار استغرابي إعلان في (الأهرام) لإحدى الشركات العقارية عن وحدات سكنية داخل متجع خاص (فيلات أو شقق) يدعو الناس إلى الانضمام إلى (مجتمع الصفوة) بالشراء لتحقيق حلم الصفوة!
وبغض النظر عن تبرير طرق الجذب المتسمة به أساليب الإعلانات، إلا أن الدافع الأساسي لانتشار نموذج الكمباوند، كان في الحقيقة هو البحث عن هذا الشعور بتلك الصفوية، حتى صار فيما بعد السكن في فيلا أو شقة في كمباوند شرطا لامراء فيه عند بعض الأسر للموافقة على تزويج بناتها.
فالجميع هرع إلى هذا النموذج وسعوا إلى الانفصال عن المجتمع العام بكل ما تحمله المعيشة فيه من متاعب.
ولا يخفى أن الفخر بالمنطقة السكنية ولو حتى بوجود أقارب أدنين أو أبعدين فيها، هو مظهر من مظاهر الزيف الاجتماعى الذي غرقت فيه فئات من المصريين حتى آذانهم!.
فنحن نعاير (من العيار والمعايرة معا) بعضن بعضا بمهن أهلينا وبمناطق سكنهم وصارت كلمة (بيئة) دلالة على التربية والمعيشة في مكان شعبى أو متوسط!، تماما كما ترسخ لذلك بعض المسلسلات في رمضان وغيره.
لا أستطيع أن أتحدث عن شعوب أخرى، لكن لا أدرى هل هذا المرض الاجتماعى مستفحل في مصر وحدها أم أنها ظاهرة إنسانية عامة، فكل مجتمع في مستويات عليا ومستويات (بيئة).
الغريب أن الانتقال للسكن من مكان شعبى أو متوسط إلى حى سكنى مميز يجعل المنتقل قبل مرور يوم كامل على انتقاله يحرص على التعامل مع المكان الذي رحل منه على أنه مجرد ذكريات بعيدة، قد يحن إلى أجوائها القديمة ولكن بشرط أن تظل قديمة ولا تعود أبدا.
لكن الخطأ الحقيقي في هذا الأمر هو انتشار هذه الثقافة المخادعة والتى عمقت من تبريرات الزيف الاجتماعى وستكون لها نتائج كارثية أخلاقيا واجتماعيا، فالشعور بالتميز؛ لاسيما إن كان زائفا؛ يبرر لأصحاب هذا الشعور ممارسة أفعال مشينة أخلاقيا واجتماعيا، أخلاق مرتبطة أساسا بحياة العزلة الاختيارية التى حققت له حلم الانتماء إلى الصفوة، فالمجتمع المعزول، مجتمع يجد في البحث له عن نسق أخلاقى خاص يخرج به عن العرف أو امتياز يعفيه من القانون العام، ولا يفكر أحد حينئذ في الحق وغير الحق، فالغرور الاجتماعى يعمى العيون عن رؤية الحقائق.
ليس هذا فقط لأننا نجده في الكمباوند وغير الكمباوند، لكن الأكثر خطورة هو ممارسة (التفاصل الاجتماعى) إن صح التعبير، خاصة في المنتجعات التى يقطنها الأكثر ثراءً، فتراهم يمارسون أشكال حياتهم بمحاولة فرض سلوكياتهم كنموذج، فعلى سبيل المثال أذكر جيدا ما قابل به أحد قاطنى كمباوند في التجمع الأول وكان مصريا يحمل جنسية دولة أجنبية كبرى، رجال مباحث المخدرات، باعتراض شديد على دخولهم لفيلا الخاصة به والتى كان قد زرع في حديقتها شجيرات الماريجوانا (الفصيلة الأمريكية للبانجو)، كما ملأ الأسطح والفراغات بأصص الماريجوانا، فقد كانت حجته أنهم لا حق لهم في اقتحام خصوصيته، كما أنهم لم يستأذنوا أمن الكمباوند عند الدخول!.
ولا ادرى ما سيكون عليه المجتمع القاهرى في النصف الثانى من القرن الواحد والعشرين، حيث سترسخ قيم هذا التفاصل بين فئات كثيرة داخل المجتمع تشعر بالعار في حال اندماجها مع المحيط العام بعدما تكون قد اخترطت لنفسها سلوكيات خاصة وثقافة مغايرة، حيث تشعر أحيانا في بعض هذه التجمعات، أنك في مجتمع أوروبي بسبب انتشار التخاطب بأى لغة إلا العربية، بين كثير من سكانها كإمعان في إثبات انفصالهم عن (البيئة المصرية)، بل حتى بعض الأماكن الترفيهية والتجارية ترفع لافتات مكتوبة بلغات أجنبية دون اعتناء بالعربي، كذلك مسميات الأقسام السكنية وغير ذلك كثير.
هل يمكن اقتحام هذا الأمر؟!
هل يطرح علماء الاجتماع والمفكرون والإعلاميون الجادون مثل هذه المشكلة على موائد البحث؟!، وإلى أى مدى يمكن تخيل مستقبل مجتمع تصبح صفوته المفروضة بإرادة العقاريين، تعيش في جزر منعزلة كمستوطنات عدو غاصب وسط تكتلات أهل البلد الأصليين؟!
هذه الأفكار المتداعية عن مشهد السيدة ذات الإسدال البنى المشجر وهى تطارد رجلا في أحد الكمباوندات، وكما هو متوقع، انتهى الأمر إلى ما تنتهى إليه أى مشاجرة في حى عشوائي، بمحضر صلح في القسم!