بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
فرحت جدا بزيارة الحاج فاروق أبا زيد شقيق محمد منير، ومعه محمود ابن خالته وزوج أخته بعد ذلك، والذي كنت أظنه السائق الخاص لمنير الذي اعتبره بعد ذلك رفيق الطريق وصديق العمر وكاتم أسرار الملك.
أعدت زوجتي الطعام الذي كان يتكون من الطيور الجارحة التي أكلها الحاج فاروق ومحمود علي أساس أنها ديوك رومي.. أنا شخصيا كنت أظنها كذلك.. لولا أن الصحافة بعد ذلك أعلنت أن كل ما كان يباع في أكشاك الأمن الغذائي التي انتشرت عن طريق توفيق عبد الحي مشكوك في أمره… المهم تناولنا الغذاء واستمعنا معا لأغنيتي: (الناس نامت إلاك) التي أرسلها لي معهما.. لم أعلق.. ولم أفرح نهائيا لأنني كنت مع نوح قلبا وقالبا ولا يعنيني أن يغني منير لي.. أولا يغني.
جلست مع الحاج فاروق في شقتي الصغيره بالدور الأخير في مساكن البلتاجي بطلخا، و تذكرت منير و هو يقول لي: والله يا بو رضوي كل ما أكون راجع من اسكندريه لمصر وألاقي نفسي وصلت بنها، أقول: والله أعملها و أروح عند إبراهيم رضوان.. ألبس الترنج و أجري عنده في العزبه شوية.. كان يظن أنني أملك عزبه وخدم وحشم في الوقت الذي أعاني فيه بشكل رهيب.
المهم.. طلب الحاج فاروق أن نجلس معا.. عندما جلسنا لاحظت أن عيونه تترقرق بالدموع.. وكان السؤال: انت عارف حكاية منير يا إبراهيم، و ازاي بقي مطرب؟
قلت له: أنا اعرف أن عبد الرحيم منصور لعب دور كبير جدا في ظهوره، قال الحاج فاروق: ربنا ما يباركله.. البني آدم ده حطمني.. مع إننا كنا علي تخته واحدة و كنت باعتبره عشرة عمري..
تعجبت.. ما علاقة عبد الرحيم منصور بمستقبل الحاج فاروق الذي قال لي أنه ضاع بسببه؟!
بدأ الحاج فاروق رحمة الله عليه يحكي لي وهو يبكي.. قال: حضرت من القاهره كمطرب يحلم بكل ما هو جميل.. وقفت في ميدان التحرير في ليلة القدر ومعي مصحف أقسمت عليه أن أحدث انقلابا في عالم الغناء بمصر والعالم العربي.. وفعلا تبناني بليغ حمدي الذي عرفني به (عبد الرحيم منصور)، وأجرينا عشرات البروفات علي الأغاني التي سأنطلق بها وسأكون قنبلة الوسط الفني.
فجأه قال عبد الرحيم منصور لبليغ حمدي: علي فكره يا أستاذ بليغ.. فاروق عنده أخ وسيم جدا.. وصل امبارح من أسوان علشان هايدخل كلية الفنون الجميله.
قال له بليغ: ايه علاقته بالشغل اللي بيننا وبين فاروق، قال له عبد الرحيم: ممكن هو اللي ياخد الأغاني دي يغنيها، خصوصا ان شكله أحلي بكتير من فاروق.. قال له بليغ: هاته معاك بكره أشوفه.
أكمل الحاج فاروق كلامه لي: كانت صدمه أن أجد أخي الصغير محمد يتدرب ويجري بروفات علي كل الأغنيات التي لحنها لي بليغ.. أصالتي منعتني من عتابه أو عتاب عبد الرحيم، أو عتاب بليغ، أو عتاب محمد، الذي كنت أحبه أكثر من نفسي.
قمت بتوضيب شقتي في شارع مصر والسودان حتي تليق به، وقررت السفر إلي الخارج حتي أرسل له ما يكفيه من مصروفات خاصه بمعيشته في القاهرة، وكنت أتابع نجاحه بفرحة شديدة.
سألني الحاج فاروق: ألست معي أنني أوفيت بعهدي مع الله في إحداث انقلاب يغير مسار الأغنيه في مصر؟!
لم أرد، وأكمل الحديث: انتقل لشقة أوسع و أجمل في شارع أحمد عرابي أعلي عمر افندي، وأصبح إسمه معروفا في الوسط الفني خصوصا بعد موت المطرب النوبي (محمد حمام) الذي غنت له مصر: (يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي)، و تتر من ألحان (حسن نشأت) في مسلسل على ما أظن اسمه الساقية، سافر فاروق أكثر من مره حتي استقرت أمور محمد منير الذي ارتبط به جدا كمكان ألجأ إليه للراحة.
فجأه انتفض الحاج فاروق ليقول لي: أقسم بالله لو حاول (يحي خليل) يحاربه ما هاعتقه.. أنا قريت في الجرايد انه جايب ولد من اسكندريه امه (مصطفي قمر).. يحاربه بيه.
وترك الحاج فاروق دموعه لتكمل الحكايه و سألني فجأه: قالك إيه عليا..
الحقيقه أنه لم يقل لي أي شئ عنه.. اضطررت للكذب وقلت له: قال لي أنك شقيقه الكبير وأبوه.
وإيه كمان..
وإنك صاحب الفضل عليه في كل اللي حققه.
و إيه كمان..
و انك أستاذه و مثله الأعلي و و و و و و و..!
قالك كده.. يا حبيب قلبي يا محمد.. ريحتني يا أستاذ إبراهيم.. حسيت ان تعبي ما ضاعش.
قلت له قبل أن يغادر شقتي: والنبي يا حاج فاروق حاول تمنع منير من التدخين والحاجات بتاعة الوسط الفني.
فقال لي: ما تخافشي على منير من الحاجات دي.. احنا في النوبه بنشرب عرق البلح و احنا لسه يادوب مخلصين رضاعه.. واللي يتعود علي عرق البلح ده من صغره يتحمل كل أنواع الممنوعات.. علي فكره يا أستاذ إبراهيم أنا حبيتك جدا خصوصا انك قولتلي على الكلام اللي منير قاله عليا.. علشان كده عايز أجيبلك هدية من أسوان.. أنا حددت الهدية.. عندنا في النيل آلاف التماسيح.. ها جيبلك تمساح.. تحب أجيبلهولك صاحي و اللا متحنط؟
قلت له: هاتهولي صاحي لأني مش باحب ريحة (الفورمالين) من يوم ما زرت صديقة لي طالبة في كلية طب تقوم بتشريح جثه وبيدها سندوتش وتغرز في جسد الجثه عود من البخور.
وتذكرت آخر مره أكلت فيها مع منير.. أحضر صينيه بها نصف دجاجة مقسومه على اثنين وقطعتين من المكرونه الباشمل.. وضع أمامي ربع الدجاجة.. قلت له أنت تعلم جيدا أنني لا آكل الطيور.
صرخ منير: يا نهار اسود.. نسيت الموضوع ده.. عارف نحل المشكله دي ازاي.. آكل أنا نص الفرخة.. و انت تاكل قطعتي الباشمل.
انطلق الحاج فاروق هو ومحمود إلي القاهره وأنا أتعجب من أصالة منير الذي أرسل لي أغنيتي: (الناس نامت إلاك) مع شقيقه الكبير احتراما للصداقه التي تربطنا.. والعيش و الملح.
وللحديث بقية..