بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
في مناسبة قرار وزارة التربية والتعليم بتدريس سيرة الفنانة (سميحة أيوب) لتلاميذ الفصل السادس الابتدائي، نقول أنها تستحق هذا التكريم الرفيع، باعتبارها فنانة أثرت حياتنا ومنحتها كثير من البهجة والمتعة، فقد غذت عقولنا وأشبعت أرواحنا ومنحتنا القدرة على تحمل مشاق الحياة بفهم أسرارها ومعرفة دقائق النفس ومستورها عن طريق فن يحترم العقل ويرقى المشاعر.
وإننا ربما ننسى وجود تلك القمم في خضم أحداث الحياة، ولكن لا يمكن محو أثرها في نفوسنا أبدا ولا يمكن أن ننكر فضلها في يوم من الأيام.
وفي الثامن من مارس المضي بلغت إحدى تلك القمم عامها الواحد والتسعين – بارك الله في عمرها – لتصبح بذلك صاحبة الرقم القياسى في عدد السنوات التي مارست فيها التمثيل ربما على مستوى العالم، ولا ينافسها فيه إلا السيدة (أمينة رزق) التي احتفلنا عام 2005 ببلوغها 75 عاما من العمل على المسرح.
فهاهى سيدة المسرح العربى وأيقونة المسرح المصرى الأستاذة (سميحة أيوب) تكمل نفس المدة منذ أول عمل احترافى لها في السينما (فيلم المتشردة 1947)، والذى كتب اسمها على ملصقاته (سميحة سامى )، حيث كانت تبلغ من العمر 15 عاما، ثم قدمت لنا على المسرح ما يقرب من 170 عملا مسرحيا كممثلة وأخرجت منهم عملين.
و أنتجت مئات الأعمال اثناء رئاستها للمسرح الحديث والمسرح القومى، ومن خلال شركتها الخاصة أو الجمعية التي ترأسها.
ولو تتبعنا الأرقام في حياة تلك السيدة (سميحة أيوب) – التي تستحق لقب الأسطورة عن حق – لغرقنا في عدد الأفلام و المسلسلات التليفزيونية والاذاعية التي قدمتها طوال مسيرتها، فليس هناك حصر دقيق للأعمال التي شاركت بها، فهناك من يقول أنها قدمت 260 عملا كممثلة وهناك من يقول أنها أكثر أو أقل.
لمعت في معظمها وسجلت حضورا طاغيا سواء في الإذاعة أو السينما أو التليفزيون، أما المسرح فكان ملعبها الأساسى ومازالت أدوارها علامة مضيئة جعلتها تحصل على أرفع الأوسمة وأكبر التكريمات، حتى أنها أول فنانة تفوز بجائزة النيل وهى أرفع جوائز الدولة في مصر عام 2015.
وكل هذا معروف ومشهود به، لكن الحديث لم يتطرق إلى (سميحة أيوب) المديرة والإدارية الناجحة ذات الشخصية القوية التي لم تكن تخاف أو تهادن، يشهد بهذا كل معاصريها والمتعاملين معها، وكنت واحدا منهم.
في عام 1986 توفى الشاعر الكبير صلاح جاهين، وقرر مسرح الطليعة برئاسة المخرج الكبير سمير العصفورى أن يحتفى بالرجل، ولكن بالمشاركة مع المسرح القومى، فقدمنى للأستاذة (سميحة أيوب) لتقديم أمسية عن الراحل، فقامت الأستاذة بتسهيل كل الأمور لى برغم أنى – في ذلك الوقت – كنت مجرد شابا مغمورا.
واكتشفت فيما بعد أنها كانت تتابع البروفات دون أن أراها لتكتشف أنه عرض كامل وليس أمسية، فتقرر عرضه لمدة شهر كامل وتسعى لأن يمثل مصر في أول دورة تعود فيها للمشاركة في مهرجان دمشق الدولى بعد انقطاع دام لعدة أعوام.
واقعة إنسانبة من جانب (سميحة أيوب)
أما الواقعة الإنسانية من جانب السيدة (سميحة أيوب)، والتي لا أنساها أنه في يوم الافتتاح وبعد اسدال ستار النهاية، و بينما كنت أجرى فى ممر يصل مابين خشبة المسرح والصالة استوقفنى موظف الرقابة على المصنفات الفنية وقبل أن يقول مبروك فتح ملفا يضم نص المسرحية مليئا بعلامات كثيرة فى عدة مواضع وبدأ يقول يجب حذف لفظ كذا وكذا.
قلت له: ده شعر لصلاح جاهين وماأقدرش أحذف منه كلمه وإلا المعنى يختل، وكله شعر اتنشر قبل كده و كل الناس قرأته.
لم يهتم بما قلت واستمر فى تصاعد حتى فوجئت به يقول: و ايه الخلفيات الحمرا اللى انت مستعملها دى؟
قلت له: مالها؟
قال: يعنى مش عارف معناها؟
قلت له: مالهاش معنى، دى مجرد إضاءة على الستارة الخلفية.. باختار لونها على حسب اللى يليق على لون الديكور اللى قدامها.
وهكذا صار موظف الرقابة يحاسبنى على فهمه هو للألوان، فاللون الأحمر لديه يعنى الماركسية – أو بكلمة أخرى لابد وأن جعلته يرتعش – الشيوعية.. إذن من وجهة نظره العرض يدعو إلى الشيوعية عن طريق نشر الإضاءة الحمراء على ستارة العرض الخلفية!.. إنها مسخرة والله أن يحاسبك شخص على مفاهيم مغلوطة و مشوشة فى ذهنه هو فقط.
ظهرت الأستاذة (سميحة أيوب) فجأة قادمة من الصالة إلى خشبة المسرح، فرأتنى وأنا محاصر كالفأر المذعور، فسألت: فيه إيه؟
قلت لها الأستاذ فلان من الرقابة.
و قال هو: العرض حضرتك فيه ملاحظات؟!
وقبل أن يتم الجملة قالت له الأستاذة (سميحة أيوب) فى لهجة حاسمة وحازمة: روح قول لنعيمة حمدى – كانت مدير الرقابة وقتها – (سميحة أيوب) بتقدم العرض ده على مسئوليتها الخاصة، و سحبتنى من يدى ودخلت إلى خشبة المسرح بينما موظف الرقابة يقف فى ذهول تام!
أكبرت للأستاذة (سميحة أيوب) هذا الموقف، ومازلت أذكره لها برغم مرور السنين، وتعلمت منه الكثير: تعلمت أن على الإنسان أن يقف صلبا وراء ما يؤمن به، ولكنها صلابة لا تسمح لهم بكسرك، وفى معاركى التالية مع الرقابة كنت أتمثل موقف الاستاذة سميحة وأضعه أمام ناظرى.
استدعتنى الأستاذة (سميحة أيوب) لمكتبها
ولعل موقفها هذا ما جعلنى أوافق على حذف مقطع صوتى صغير من العرض، ففى اليوم التالى للافتتاح وقبل فتح الستار استدعتنى الأستاذة سميحة لمكتبها، و طلبت منى حذف جزء من خطبة للسادات تضمنها العرض، والحقيقة انه لم يكن جزءا حقيقيا من الخطبة.
بل إننى قمت بعمل مونتاج للأصوات الشهيرة التى كان يتميز بها السادات فى خطبه من تكرار بعض الحروف مثل: (و .. و .. و / ف .. ف … ف / آااا .. آاااا .. آااااا)، ووضعتها متجاورة لفترة طويلة وفى النهاية تأتى جملته الحاسمة: (الديمقراطية ليها أنياب ومخالب.. أنا باقفل على كده).
طلبت الأستاذة (سميحة أيوب) أن أجرى اختصارا لتلك الأصوات قبل الخطبة وقالت اللى انت عايزه يوصل هيبان بعد مرتين تلاته فمافيش داعى للتطويل.
حاولت المراوغة وقلت: أنا مالى هو اللى قايلها كده.
نظرت لى وكأنها تقول: إنت هتضحك عليا أنا؟، وقالت: انت اللى يهمك الجملة اللى فى الخطبة ودى اللى انت بتعلق عليها فى العرض، اللى قبلها ده كله مش مهم، وأنا ماقلتكش شيله، أنا باقولك اختصره.
وافقت وقمت بعمل المونتاج اللازم لاقتناعى بأن جزء الأصوات كان للسخرية من شخص السادات وليس من طريقة وأسلوب و منهج حكمه، وأن حذفه لن يؤثر فى العرض أو يضعف الاثر المطلوب.
أمد الله في عمر السيدة (سميحة أيوب) ومنحها الصحة والعافية كرمز مصري كبير، قدم روائع الفن في المسرح والسينما والتليفزيون على مدار رحلتها الكويلة في الإبداع.