بقلم الإعلامي: أسامة كامل
نجاة.. أسطورة غنائية مصريه شاء القدر أن تطل علينا.. إبداع فوق الوصف..عالم آخر من السحر.. هى السهل الممتنع.. هى الخيال.. هي الحب وصوت الحب.
حينما استمعت إليها مبكرا جدا شدني هذا الجرس واللمسة اللطيفة.. صوت يأتي من بعيد وسط الحقول والزهور والفواكه.. هى الصوت المصري والعربي الذي تشعر وأنت تستمع إليها أنك تتذوق طعام فاخر لا يسبب لك عسر هضم وتتمنى ألا ينتهي مصحوبا بنبيذ فاخر لا يسكرك، ولكن يطربك.
كانت ألحان عبد الوهاب هى البوابة السحرية لفنانة دقيقة رقيقة تهمس وتحب الحب.. لقد أحب الشاعر الكبير المظلوم (كامل الشناوي) صوت وروح نجاة وتخيل أنها تناديه وتغني له وحده، وعاش في نشوة نجاة وانهار حينما شاهدها في مواقف عاطفية مع الأديب المعجزة (يوسف إدريس)، بل يمكن القول أنه انتحر وألقي قصيدة (لا تكذبي) وأرسلها إليها فقام (عبد الوهاب) بتلحينها وغنتها نجاة لتصبح أحد الماثورات.
ويا ليت (كامل الشناوي) كتب كل ما يلقيه على مسامع سهرات القاهرة في الخمسينات والستينات كنا نستمتع بهذا الفن الجميل وكانت نجاة المختلفة تبحث عن شعراء على وزن (الشناوي) الذي لا يعادله أحد.. وجدت غايتها عند (نزار قباني) الذي لم يصدق أن نجاة سوف تغني قصائده البديعة وتفتح له بابا يدخل منه التاريخ، وينظر (عبد الحليم حافظ) الذكي وينهل من هذا البستان القباني، ويسحب من نجاة آخر قصائده قارئة الفنجان التي كانت ملكا لنجاة.
إن نجاة لا تزال على قيد الحياة ولكن اعتزلت الدنيا وما فيها وإني أطالب بتكريم آخر حبة في عنقود الطرب المصري الأصيل.
صوت (نجاة).. رقه وعذوبة ورومانسيه ودفء.. قل كما شئت فهى تستحق.. نجاه صاحبة الرصيد الغنائي الكبير كان احترام المتلقي هدفاً مباشراً دائما صوب أعينها، فهي تري أن فكره الأغنيه والكلمات واللحن ليس بالأمر السهل على الإطلاق لاسيما وإن كانت ستغني مثلاً قصيدة.. من منا ينسى (أيظن، إرجع إليى، ماذا أقول له، لا تنتقد خجلي الشديد).
علي طول مسيرتها الفنيه لا أظن أن أحدا قال عنها أنه خانها التوفيق في اختيار كلمات أو لحن أو تعاون مع أحد.. كانت دائما عند حسن الظن .
أما شخصيه (نجاة) فحدث ولا حرج، كان شعور (الانبهار) هو الغالب في معظم ممن اقتربوا منها.. توقفت عند موسيقار الأجيال (محمد عبد الوهاب) عندما قال عنها بأنها صاحبه السكون الصاخب كذلك قال (عندما أعطي لنجاه أغنيه أكون مطمئن بأن لحني آمن) .
أما (نزار قباني) فقد بدأت علاقته بالفنانة (نجاة) إثر استلامها رساله بريدية من الصين حيث كان يعمل (نزار قباني) دبلوماسي في سفارة سوريا في بكين تحوي قصيدة (أيظن).. قرأت (نجاة) القصيدة وأحست بأن هناك شيىء ما في مفردات الكلام لم تعهده من قبل.. وأنه بمثابه كنز يتطلب صعوبة كبيرة في استخراجه والأمر ليس سهلاً لاسيما وأنها لم يسبق لها الغناء بالفصحى .
اتصلت (نجاة) بالموسيقار (كمال الطويل) لمعرفة إمكانية تلحين مثل هذه الكلمات فقال لها مستغرباً (ايه ده ؟!.. لا طبعاً )، وكذلك فعل ( محمد الموجي) .
شعرت (نجاة) أن مشروع تحويل القصيدة إلى لحن لن يتم فقررت أن ترسل القصيدة إلي أحد الصحف المصريه كي ينشرها لهواة الشعر إكراماً لصاحبها الذي اختصها هى فقط وأرسل إليها هذه القصيدة.
فوجئت السيده (نجاة) بعد نشر القصيدة بجواهرجي الموسيقي (محمد عبد الوهاب) يتصل بها بعد أن عرف أنها هى من أرسلت القصيدة للجريدة وقرأ عليها أبيات منها فقالت له (عجبك الكلام يا أستاذ؟)، فرد عليها بقوله (أنا مش عاجباني بس.. ده أنا لحنتها كمان.. تعالي اسمعيها)، لم تصدق (نجاة) وذهبت إلى منزل (الموسيقار محمد عبد الوهاب) واستمعت إلى اللحن بصوته.
قدمت (نجاة) أغنيه (أيظن) في حفل عام ونال استحسان الجمهور وأحدثت ضجة كبيرة وأعاد (الراديو) إذاعه الأغنيه عدة مرات بناء على طلب المستمعين وكان السؤال الذي يتردد حينها: من أين أتت (نجاة) بهذا الشاعر؟
الطريف في الأمر أن (نزار قباني) فوجئ بانتشار قصيدته بصوت القيثارة (نجاة) ولحن (موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب)، لم يكن يتخيل مثل هذا النجاح وأرسل إلى (نجاة) خطاب يداعبها ويعاتبها قائلا: (كنت أتمني أن استمع إلى كلماتي بصوتك قبل أن تظهر للنور)، واستدرك (يا لك من أم قاسية.. تحرمي مولودك الجديد من أبيه).
تعددت اللقاءات الفنيه بعد ذلك بينهما، وعند سؤاله يوما عن (نجاة) قال: (بالنسبة لي صوت نجاة يعبر عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجولة التي تخاف من البوح عما في عالمها الذاتي من أحاسيس، وأعتقد أنها أفضل من غني قصائدي وعبر عنها.. أرجو ألا يغضب الآخرين فهى كتلة من المشاعر) .
أما الشاعر الكبير (عبد الرحمن الأبنودي) الذي كتب لها الكثير من الأغنيات من أشهرها (عيون القلب)، فيقول عنها: (الفنانه نجاة الصغيرة.. أشعر وهى تغني أنها قادرة على المشي فوق الماء والمشي فوق الأرض دون أن تطأ قدماها تراب الأرض.. تملك طعم خاص.. وبقدر ما هى فنانة كبيرة فهى إنسانة رقيقة المشاعر علمها الفن أن تكون حذرة، فكل حرف وكل شطر وكل كلمه لابد أن تمر عبر فهمها للعاطفه والحب).
وعن عدم ظهورها و اعتزالها لعالم الفن تقول السيدة (نجاة)، أليس من الجميل أن يجلس الفنان بعد هذا العمر ويستمع إلي أعماله وهى تنجح باستمرار وسط الأجيال المتعاقبة، ماالذي يمكن أن أقدمه مجدداً وأنا على قناعة بأن ابتعادي لن يؤثر في المكانة التي رسمتها في قلوب الجمهور.
أدعوا لهذه الفنانه بالبركة في العمر.. وأدعوكم كى تستمعوا إلي قصيدة (لا تنتقد خجلي الشديد).. عالم تاني!!!