بقلم: ماجد كامل
رغم مرورنحو قرن – 99 عاما – على رحيله إلا أنه لايزال يشغل حيزا مهما من اهتمامات النقاد والكتاب والقراء فى مختلف أرجاء العالم، كما أن طبعات أعماله لاتزال تتوالى بمختلف الترجمات نقلا عن اللغة الألمانية التى كان يكتب بها (فرانز كافكا – Franz Kafka) مفضلا إياها عن لغته الأم – التشيكيه – لثرائها اللغوى.
وقد ولد كافكا فى براغ عام 1883 وتوفى عام 1924 عن 41 عاما فقط بعد معاناة مع مرض السل، وخلال هذه الحياة القصيرة أنتج عددا من الروايات والأعمال التى لم يتمكن من نشر معظمها فى حياته التى اتسمت بالبؤس والكمد، حتى أنه أوصى بحرق أعماله بعد وفاته، ولحسن الحظ فقد أهملت هذه الرغبة، حيث نشرت معظم أعماله عقب رحيله ليتحول معها من مجرد أديب تشيكى مغمور إلي أب عراب لتيار جارف سمي بالرواية السوداوية أو الكابوسية.
أما المثير بالفعل فهو امتلاء الفضاء الإلكترونى بعشرات المواقع التى أقامها عشاق كافكا ومعظمهم من الشباب الذين تفصلهم عنه عقود طويلة وبعيدة من الزمن، كما يزخر موقعا التواصل الاجتماعى الشهيران (فيس بوك، وتويتر) بالعديد من الصفحات التى أسسها عشاقه لتحمل اسمه حيث تشهد هذه الصفحات تفاعلات على مدار الساعه بين روادها، وتسجل بعضها أرقام (إعجابات) تصل عدة آلاف.
وقدجاءت رحله كافكا الغنية والفريدة مع الحياة لتحوله في النهاية – رغم قصرها – إلى أيقونة أدبية خاصة ترسم عالماً كابوسياً مميزاً لا مثيل له حيث نشر (كافكا) خلال حياته عدداً قليلاً من أعماله، أما الجزء الأكبر منها فقد نشر بعد وفاته، ومن أهمها (المسخ – The Metamorphosis، (المحاكمه – The Trial، في مستوطنة العقاب – In the Penal Colony ، وتحريات كلب – Investigations of a Dog، والقلعة – The Castle، وأمريكا – America، هى آخر أعماله التى نشرت بعد وفاته بثلاث سنوات ، ولعل أبرزها مسرحية (القضية)، وفيلم (The Trial).
المسخ
وتعد رواية (المسخ) التي نشرت لأول مرة في العام 1915عندما كان عمر كاتبها (فرانز كافكا) لايتجاوز الثالثة والثلاثين عاماً علامة من علامات الأدب في القرن العشرين، ومؤشراً دالاً على مجمل المنجز الأدبي لكافكا الذي اتسم بالطابع الكابوسي الغارق في التشاؤم والسواد.
حيث تبدا الرواية بهذه الكلمات: (ما إن أفاق جريجور سامسا ذات صباح من أحلامه المزعجة حتى وجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة)، بهذه المقدمة الصاعقة يبدأ الكاتب التشيكي (فرانز كافكا) روايته الشهيرة (المسخ) معلناً منذ البداية أن شخصيته الرئيسية قد تحولت ببساطة إلى حشرة كريهة، وهى مقدمة اعتبرها الروائي الكولومبي (جابرييل جارسيا ماركيز) أعظم افتتاحية يمكن تصورها لرواية.
فالشاب (جريجور سامسا) هذا يعمل بائعاً لصالح إحدى الشركات وقد اضطر للعمل من أجل مساعدة أهله وقضاء حاجاتهم بعد تقاعد أبيه العجوز، ولأنه أصبح الآن حشرة كريهة فإن أهميته بالنسبة لعائلته قد تلاشت تماماً، لهذا نراه خلال الرواية بكاملها وهو يحاول التواصل مع أبيه وأمه وأخته؛ لكن بلا أمل تقريباً لأن الجميع كان قد تخلى عنه، الرواية التي تجري أحداثها في غرفتين فقط تلقي أمام القارئ بتساؤلات حادة عن وجود الإنسان في هذه الحياة.. الإنسان الذي وجد نفسه فجأة في عالم ليس من اختياره، ومع ذلك فهو مرغم على التعايش معه وفق طاقاته المحدودة.. تماماً مثل (جريجور سامسا) الذي تحول إلى مخلوق كريه بشكل مفاجئ من دون أن يمنح فرصة اختيار قدره الخاص.
أعماق متعددة للابداع
ويجبر فن (فرانز كافكا) وعمق إبداعه القارئ على إعادة قراءة ومشاهدة أعماله مرة أخرى ليحصل معهاعلى رؤية جديده غير تلك التى حصل عليها فى قراءته الأولى للعمل.
فهنالك أحياناً إمكانية مزدوجة للتفسير، ومن هنا تنبثق الحاجة إلى قراءتين، ولكن سيكون من الخطأ محاولة تفسير كل شيء عن كافكا بالتفصيل ..
فالرمز هو دائماً عام، وهو دائماً يسبق ويفوق من يستخدمه، ويجعله يقول في الواقع أكثر مما هو مدرك لتعبيره عنه، وفي هذا الصدد فإن أفضل وسائل الإمساك بالرمز لا تتمثل في إثارته .
فللوهلة الأولى.. وبالنسبة للقارئ الذي يتناوله بالصدفة، يلوح أن مغامراتٍ مثيرة مقلقة تدفع بشخصياتٍ مزلزلة ملاحقة تواجه مشاكل لاتصنعها هى، ولم تكن تريد لنفسها هذا الأمر ..
ففي روايته (المحاكمة) نجد البطل(جوزيف ك) متَهماً، ولكنه لايعرف بماذا، وهو بلا شك متلهف للدفاع عن نفسه، ولكنه لايعرف لماذا؟، ويجد المحامون قضيته صعبة، وفي الوقت نفسه يستمر هو في العيش، فلايهمل الحب وتناول الطعام وقراءة الصحيفة، قبل أن يحاكم في النهاية ويقطع رأسه على صخرة ٍ في ضاحية بائسة..
وهكذا نرى أنه من الصعب التحدث عن رمز ٍ في حكاية صفتها الأشد وضوحاً هى (الطبيعية)، ولكن هذه الطبيعية نوع صعب على الفهم ..
ومن الواضح أنه كلما كانت مغامرات الشخصية استثنائية زادت طبيعية القصة ويكون ذلك متناسباً مع التحول الذي نشعر به، بين غرابة حياة إنسان والبساطة التي يقبل بها الإنسان تلك الحياة ..
ويلوح واضحاً أن هذه الطبيعية هى طبيعة كافكا..
وناتى لروايته (القلعة) والتى يمثل كل فصلٍ جديد فيها خيبة جديدة، وكذلك بداية جديدة فى الوقت ذاته..
حيث يعين (ك) مساحاً للأراضي فى مكان لانعرف عن اسمه سوى أنه (القرية) والتى تقع بدورها عند أسفل التل الذى ترتفع فيه القلعة، ويصل (ك) إلى القرية ليكتشف أنه من الصعب الاتصال بين القرية والقلعة، ويحاول بنية حسنة لامكترثة أن يقوم بالأعباء المعهودة إليه، ولايغضب..
وحين يتلفت (ك) إلى القلعة، يسمع أصواتاً ممتزجة مضطربة، وضحكات غامضة، ودعواتٍ بعيدة، فيذهب إلى القلعة على أمل كبير هو أن يجعل القلعة تتبناه، وهو بذلك يريد أن يستبعد اللعنة الخاصة التي تجعله غريباً بالنسبة للقرية، ولتتطور الأحداث فيما بعد..
فنراه قد تخلى عن الأخلاقيات، وأصبح غير مخلص ٍ حتى لنفسه، إذ أمسى لايهمَه من الحياة إلا أن يبقى مسلحاً بأمله المجنون فقط وهو الانتماء إلى القلعة.
وهذا التحول بدوره يمثل بالتأكيد التصور المرعب لأخلاقية الوضوح، ولكنه أيضاً نتاج تلك الدهشة التي لا حدَ لها، والتي يشعر بها الإنسان نحو إدراكه للوحش الذي يصيره بدون أن يبذل في ذلك مجهوداً.
وفي هذا الغموض الجذري يكمن سر كافكا.. وهذا التردد الدائم بين الطبيعي والاستثنائي، بين الفردي والكوني، بين المأساة والاعتيادية، واللا جدوى والمنطقي والذى يظهر في أعماله هو الذي يهبها نغمتها ومعناها..
فكلما ازدادت مأساة الوضعية التي يصفها كافكا، زاد ثبات وتحرش الأمل.. وكلما ازدادت لاجدوى (المحاكمة) حقاً ، زاد احتدام القفزة التي تتجلى في (القلعة)..
فجوزيف (ك)، ومسَاح الأراضي (ك) هما في الحقيقة قطبان يتجاذبان كافكا ..
فـ (المحاكمة، أو(القضيه) تمعن التأمل في مشكلة ٍ نجد أنَ (القلعة) إلى حد ما تحلها ، فالأولى تصف طبقاً لطريقةٍ شبه علمية وبدون أن تستنتج، والثانية إلى حد ماتفسر..
وبمعنى آخر: (المحاكمة) تصف الأعراض، بينما (القلعة) تجد العلاج، ولكن الدواء المقترح هنا لايشفي، إنه فقط يعيد المرض إلى الحياة الاعتيادية، إنه يساعد على قبوله. .
إنَ نتاجه قد لايكون مجدياً، ولكن ذلك يجب أن لايمنعنا من رؤية نبله وعموميته. .
الكابوس عند (كافكا) يوازى الحياة نفسها، فمن رحم هذا الكابوس ومن أجوائه المغرقة فى السوداويه يولد (كافكا) أسئلة لاتنتهى حول حيرة الإنسان وعجزه عن مواجهة واقع يتسم بالخطر المحدق فى مواجهة واضحه بين وجود الإنسان وقلة حيلته وخوفه أن يمتصه العدم بعد أن تسحقه ماكينات الحياة الجبارة.