بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
كثيرا ما يلجأ المصريون الى التفاخر بماضيهم عوضا عن مشكلات الحاضر، أو هروبا منها، أو ربما انتظارا لعودة ذلك الماضى بكل ما فيه من أمجاد، فهناك من يتحدث عن عظمة مصر الفرعونية بكل ما تركه الأجداد من حضارة تمتد إلى عمق التاريخ، وهناك من يلجأ إلى فترات أقرب فيتحدث عن مصر الناصرية التي قادت حركات التحرر في العالم العربى وكانت ملهمة للعالم الثالث، وفي عصرنا الحالي نلجأ الى الإنجازات الفردية، فنفخر بأديبنا الأشهر (نجيب محفوظ) أو عالمنا الدكتور (أحمد زويل) أو غيرهما ممن حازوا مكانة عالمية، ولكن الجميع سواء من لجأوا إلى الماضى أو الحاضر يظل فخورا بمصريته وبانتمائه إلى شعب يختزن جينات عبقرية، ربما لا يقدرها البعض حق قدرها.
ولا شك أن المهتمين بالفنون أحسوا بالفخر و طاولت أعناقهم عنان السماء وهم يرون الاحتفال بالموسيقار الكبير (هانى شنودة) الذى تم منذ أقل من أسبوع على أرض الرياض وضمن موسمها الفني، و شارك فيه نجوم الغناء المصرى مثل (عمرو دياب و محمد منير و أنغام)، والحقيقة أن (شنودة) يستحق هذا الاحتفال والاحتفاء كأحد رموز الموسيقى المصرية وكحلقة في سلسلة طويلة بدأت بسيد درويش – وربما قبل – ولم تنته ولله الحمد حتى الآن، سلسلة ضمت نجوما كثيرة لا مجال هنا لحصرها، و ضمت أيضا نوابغ – لا يسعها مقال واحد – طورت الموسيقى العربية.
والحقيقة أن هيئة الترفيه أدركت منذ البداية أن الاحتفال بالمبدعين الكبار في الوطن العربى يضمن لها رواج أعمالها، و لم تتعامل بحساسية مع من لا يحمل الجنسية السعودية، بل تعاملت مع التراث الضخم لفنانى الوطن العربى على أنه تراث للإنسانية يتجاوز الحدود والجغرافيا وربما السياسة أيضا، فقد قدمت العام الماضى عرضا عن العندليب عبد الحليم حافظ ، استخدمت فيه أغانيه واستحضرت صورته على المسرح من خلال تقنية الهولوجرام، واستمر العرض قرابة ثلاثة شهور في سابقة لم تحدث لأى من عروض موسم الرياض، ثم أعادته مرة أخرى في موسم جدة، وهذا العام تم تقديمه للمرة الثالثة لمدة تقارب الثلاث أسابيع، وهناك عرض آخر تم تقديمه عن كوكب الشرق أم كلثوم واستمر أيضا لفترات طويلة، وبرغم نجاح تلك العروض وإقبال الجمهور السعودى عليها فلم نسمع بها في القاهرة.
ولم يقتصر هذا على الفنانين المصريين العظام، ففي تجربة غير مسبوقة جمع موسم الرياض أكثر من 40 نجما من نجوم الموسيقى و الغناء ليحتفوا بالفنان والملحن السعودى الملقب بـ (صوت الأرض) طلال مداح – برغم وفاته منذ 22 عاما – اعترافا بفضله في تطوير الموسيقى السعودية ونشرها خارج المملكة، حيث غنى في العديد من المدن حول العالم كما غنى للعرب بكل لهجاتهم، فغنّى بالمصرية واللبنانية والتونسية واليمنية والمغربية والعراقية والسودانية وغنى أيضًا باللغة الإنجليزية بالرغم من أنه لم يكمل تعليمه الابتدائي، فلم يكن (مداح) فنانا محليا بل تعاون مع كبار الموسيقيين والمطربين على امتداد العالم العربى وساعد على ظهور نجوم كثيرين، وجاء الاحتفال على مسرح يحمل اسم الفنان الكبير (محمد عبده) الذى قال عن (مداح) إنه أستاذ الجميع.
و تكررت التجربة مع موسيقارنا الكبير هانى شنودة، فجمعوا نجوم الغناء و الموسيقى وكتابة الأغانى إلى جانب نجوم التمثيل للاحتفال بمسيرته، ولكن لماذا (شنودة) بالذات؟، هل لريادته في تكوين الفرق الموسيقية التي تغنى بالعربية كفرقة (الأصدقاء)؟، أم لنجاحه في تأليف الموسيقى التصويرية لأشهر الأفلام المصرية كـ (المشبوه و الحريف)؟، بالطبع نعم، و لكنها إجابة ناقصة لاتكتمل إلا بإضافة أنه ساهم في ظهور النجمين (عمرو دياب و محمد منير)، وهذا ما ضمن مشاركتهما في حفل واحد!، تلك هى الضربة أو السبق الذى سعت إليه هيئة الترفيه، و سهل لها بيع تذاكر الحفل بالكامل لتتحول المناسبة من مجرد احتفاء بموسيقار كبير إلى مصدر يدر دخلا يغطى مصاريف الحفل وزيادة، و يسجل نجاحا غير مسبوق في كيفية تحويل الأحداث الفنية إلى عمل تجارى رابح، وذلك درس يجب أن نتعلم منه كيف نحتفى بالرموز وتتحول المناسبة إلى مصدر دخل سواء مباشر أو غير مباشر بتأثير ذلك على السياحة وعلى صورة الدولة.
ولم تقف مجهودات هيئة الترفيه عند هذا بل إنها تنتج حاليا عرضا غنائيا عن آخر الأغانى التي كانت سيتغنيها السيدة أم كلثوم من تلحين الموسيقار الكبير (سيد مكاوى) و لكن القدر لم يسعفها، وذهبت الأغنية الى الفنانة الكبيرة (وردة) وهى أغنية (أوقاتى بتحلو)، ويستعرض العرض تلك الواقعة مع تقديم نفس الأغنية كما لو كانت أم كلثوم تغنيها!
أفكار فنية براقة وجذابة، تحقق أرباحا – وتلك هى المعادلة الصعبة – و يكفينا منها الفخر برموزنا الذين عاشوا وعبروا الحدود بأعمالهم الخالدة، و أتمنى أن يكون هذا درسا لنا في أن نساعد باقى الفنانين على التحول إلى رموز ونضمن لهم الخلود، على الأقل بألا نكون أول المعاول التي تحطمهم.