كتب: محمد حبوشة
وأنا أستمع إلى الموسيقى، تنفتح حولي حدائق، فتصير النغمةُ زهرةً أسمعها بعينيّ. للصوت صورة، وللصورة صوت متدرِّج متموِّج.. أَبعد من مجاز أدبي. يَخْرُجُ القرنفل من أحواضه، وينتشر على طاولات المطاعم الراقية لتعويض الغريب عن خسارة منسية، أو للإمعان في تدريب المُنْتَظِرِ على مفاجآت القادم. وليس على النرجس من حَرَجٍ إن أطال الاستماع إلى أغنية الفرح في الماء، وظنَّها أغنية مديحه.. أَمَّا الزنبق الأبيض، إذا اتسع الصالون لرائحته الشاسعة اللاذعة، فإن خواطره تضلِّلني، على عكس البنفسج الذي يوقفني على تقاطع صوتين يتداخلان ويذوبان في تشابه الدموع بين عرس و جنازة.. وعلى عكس شقائق النعمان المكتفية بغناء الهامش الفسيح على سفوح الرَعَويَّات.. كل هذا لأقول: إن الوردة الحمراء موسيقى مرئية.. وإن الياسمين رسالة حنين من لا أَحد إلى لا أحد!
ظني أن تلك الكلمات التي قالها الشاعر الكبير محمود درويش عن الموسيقى والغناء كان سيهديها عن طيب خاطر إلى المطربة صاحبة الصوت الساحر (كارول سماحة) فور انتهائه من سماع (الألبوم الذهبي) لها، حيث استطاعت أن تلامس مشاعره الدافئة وتعبر بصدق عن الحب والحرب والموت والحياة التي تضمنتها 12 قصيدة له في هذا الألبوم، والذي جاء ليزيح الغيمة.. غيمة الغناء الردئ في هذا الزمن الصعب، فمع كل الصياغة الموسيقية الموفقة هنا في (الألبوم الذهبي)، تبدو مهمة اختيار النص الشعري بقصد وضع معالجة موسيقية غنائية له، ضرورية وأساسية، وتبدو قصائد الشاعر محمود درويش القصيرة – التي اختارت كارول بعضا منها – وقد كتبها في تجاربه الشعرية المبكرة وحتى اللاحقة (غنائية) وأقرب الى الموسيقى ومعالجتها، فهى بإيجاز مقاطعها والنسيج (الغنائي) المحكم فيها تبدو أكثر طواعية من القصيدة المركبة في إيجاد بنية لحنية غنائية لها، فيما يبدو الحل الأنسب لمعالجة المستويات المركبة في القصائد المطولة، هو في تأليف موسيقى تحاورها دون أن تدخلها في القالب الغنائي صعب التحقق.
وإذ تصح هذه الملاحظات على معالجة (كاورل سماحة) لقصائد درويش فهي تصح أيضا على تلك القصائد التي اختارتها، وتصبح مفتاحا أو مدخلا لعموم التجارب الموسيقية العربية التي تحاول الخروج من طابعها التطريبي التقليدي الى البناء التعبيري الموسيقي الجاد، وفي غياب اللحن الغنائي وحضور التعبير الموسيقي المجرد كإحدى الوسائل التي يمكن من خلالها ايجاد قراءة موسيقية – غنائية للنصوص الشعرية لمحمود درويش فإن هذا لا يعني أن تصبح القراءة الموسيقية للنص الشعري (تأطيرا) شكليا، بل أن تصبح بناء لحنيا (مجاورا) يقيم تعبيراته الخاصة على جناح صوتها الشجي والقوي المعبر عن حالة الإنسان في هذا الزمن الغريب بألحان عذبة ندية للموسيقي الفذ (تيسير حداد) الذي عمد لجعل إيقاعها سريعا يتسم بالحرارة والثورة على كل ماهو تقليدي بحيث يواكب تطورات العصر، لكنه لايخلو من لمسات شرقية تتمتع بالعذوبة والشجن.
صوت كارول سماحة الذي تولى الغناء لـ 12 قصيدة من كلمات شاعر الأرض والقضية (محمود درويش) لم يكن موفقا فحسب، بل كان يعلو بمحاولات الغناء أو (الإلقاء بصحبة الموسيقى)، بحيث يفضي في النهاية إلى التعبير عن المشاعر الداخلية لدرويش، والذي يعكس حضور روحيتها والابتعاد عن (نصوص) الكلام وهى تحلق في فضاء الغناء متحررة من كل قيد، وبجعل اللحن يلعب ويبث الكثير من (الميلوديات) وتكرارها بين المقاطع، فهناك أكثر من مقطع (تلقي) فيه (كارول) الشعر والموسيقى بطريقة مبهرة للغاية.. نعم هناك في العمل جهد فني واضح في التوزيع الموسيقي الذي تولاه (ألكسندر ميساكيان).
نحن أمام فنانة مثقفة استطاعت استيعاب الرمز في شعر (محمود درويش) وفهمت التقنيات التي يكثر استخدامها في قصائد الشعرية، باعتباره وسيلة يعتمدها الشاعر للإيحاء بدل المباشرة والتصريح، فينقل المستمع من المستوى المباشر للقصيدة إلى المعاني والدلالات الضمنية التي تكمن وراء الكلمات، كما قامت باستكمال ما تعجز الكلمات عن تبيانه، ومنحت الرمز للشاعر الآلية اللازمة الفاعلة لاختراق شعور المتلقي، والتغلغل في أفكاره، وذلك بما أضفته على النص الشعري من جمالية الأثر في ذهن المتلقي، والتي تفرض عليه البحث في دلالاتها بغية الوصول إلى كنهها، واكتشاف آليات انزياحها عن المألوف.
في قصائد (درويش) الـ 11 وهى: (إلهي، بيروت، فكر بغيرك، اعتذار، أيها المارون، سأصير يوما، سأحلم، طيور النيل، قطار الساعة الواحدة، لا أنام لأحلم، نحن نحب الحياة)، بالإضافة إلى قصيدة (ستنتهي الحرب) خاطبت (كارول سماحة) خيال الشاعر (درويش) في وقوفه أمام صورة الصراع بين الحياة والموت، فنجدها تحتفل مع الشاعر بالحياة تارة، وتلعب معه حالة الموت تارة أخرى، لأن الموت لديه لا يمثل مرحلة نهائية للحياة بشتى صورها، بحيث يمكن للموت أن يكون طريقا إلى الحياة، أو اعتباره حلقة تفضي إلى سلسلة يتكون منها عقد الحياة الطويل، وهذا بين في تكراره لطلب الموت في قصائده الكثيرة غير تلك التي حواها (الألبوم الذهبي)، لكن روحه التواقة للحرية وحب الحياة قابلها نفس الحب في (الألبوم) الذي جاء لينتشلنا من براثن التردي الغنائي الحاصل في حياتنا الحالية.
من خلال متابعتي لها، بمجرد أن تخطو (كارول سماحة) على خشبة المسرح الاستعراضى أو (الفيديو كليب) تتحول بخفة ورشاقة إلى فراشة انطلقت لتوها من محبسها، وبدأت بالطيران نحو النور، وهى تتمايل متجاوزة حدود الزمان والمكان فى تيه ودلال ودعة، وهو ما بدا لنا في الكليبات التي أخرجها (باسل ناصر) وتبدو حركاتها وتمايلها كرنين موسيقى يملأ صورة (الفيديو) بعذب الكلمات والألحان والأداء الغنائى بحس تمثيلى نادر، ولذلك أطلقوا عليها لقب (فراشة المسرح)، وهى كذلك بالفعل، فمؤخرا استمتعت بتألق كارول سماحة مع جمهور في هذه الكليبات من خلال إطلالات رائعة، ووسط حالات خاصة تعكس براعة الغناء والتمثيل كما ينبغي أن يكون، لتقدم لنا تابلوهات غاية في الروعة والجمال النابع من روحها القوية وقدرتها على التحدي.
لا أنكر أننى فى هذه المرة حاولت أن أنجرف بتيار قلمى نحو مناطق وجدانية مغايرة، كى أكتب ما أشعر به من صدق المشاعر التى تجتاح أى منا، خاصة عندما يتعرض الإنسان لتجربة مغايرة من المتعة الفنية الغنائية بطريقة استعراضية بأسلوب (كارول سماحة)، الذى يقوى بالتأكيد على جعل مشاعر خاصة جدا تنمو بداخلنا، ونحن نحتاج فى أوقات كثيرة إلى توضيحها، وها أنا ذا أحاول أن أجارى صدق مشاعرى بما أكتب، تلك المشاعر التى تنمو بداخلنا دون أن نلتفت إليها، ولا نتعمد أن توجد فى إحساسنا، ولعل قلمى يطاوعنى بما أريد منسابا على غير العادة يخط الحروف بما أوتيت غاية صاحبته كارول سماحة.
ولذا أقول: هى حرة قبل كل شيء، فالموسيقى التى تقدمها تشبهها إلى حد كبير، تدخل دوما فى قلب المغامرة، وتندفع نحو المجهول، وربما يرجع ذلك لكونها القائلة: (بغامر بركض عالمجهول!!!)، فهى تبدو لنا المطربة العربية المتحررة والملتزمة فى وقت واحد، فتارة تصبح كلاسيكية طربية، وتارة أخرى أكثر عصرية وتجددا، ومع ذلك فهى تبدو متأنية، وقورة، حالمة، ومتهورة جدا فى تجاربها الفنية التى تقوم على رفض كل ما هو تقليدى، وهو ما يجعلها فنانة ذات طراز مختلف، بل ربما هذا يدخلها فى مصاف الأوائل من النجوم، حيث تذكرنا فى أغانيها التى تختار لها الكلمات والموسيقى بعناية ودقة بزمن الكبار، أولئك الذين ينتمون إلى عصر الفن الجميل.
بدت لي (كارول سماحة) في هذه الألبوم الذي اعتمد القصيدة جريئة جدا فى طرح أفكارها التى تضعها دوما على حد السكين بحملها المخاطرة والمغامر فى طريقة طرحها للفن الذي يشبهها!، وليس هذا الأمر وليد المصادفة، فقد بدأت حياة الغنائية بألبوم اسمه (حلم)، وربما أيضا لأنها الموهبة التى خرجت يوما من مدرسة (منصور الرحبانى) بكل وقار وأدب وإخلاص، امتلأت به واختارت أن تتذوق طعما آخر من أنواع الفنون الرحبانية فى عصرها الذهبى، والتى كانت وماتزال حلم كثيرين من رواد الطرب اللبنانى، وقد لاقاها النجاح فى منتصف الطريق مرحبا بخلطة نادرة الصنع والخلق، إنها خلطة (كارول) التى تبعد تماما عن المواضيع السطحية والأفكار المستهلكة أوالتقليدية.
فى (الألبوم الذهبي) أيضا أطلقت (كارول) ثورتها الفنية الكبيرة والمدوية برصاص حى باتجاه أصحاب المشاعر البليدة من أبناء عروبتنا، ورقصت على أوتار الإبداع والتألق فى عمل فنى اجتماعى سياسي وهادف بامتياز، فالكلمات يفوح منها عطر الجمال عبر قصائد (محمود درويش) التي تبدو أشبه بالسمفونية الموسيقية، لحنها (تيسير حداد) ووزعها (ألكسندر ميساكيان) ببراعة مطلقة، كما قام بإخراج الكليبات المخرج (باسل ناصر)، الذى نجح إلى حد كبير فى رسم كادرات سينمائية فائقة الجمال والمهارة، أما صوت (كارول) فحكاية من تلك الحكايات الأسطورية التى ينبغى أن تحكى على مدار تاريخ الإنسانية.
بطول مشوارها الغنائى أحدثت (كارول) الجدل حول الكلمات التى تختارها بحرص شديد لتغنيها معبرة عن روح الحرية والتمرد الذى يسكنها طوال الوقت، فضلا عن غنائها للأطفال وللإنسانية بصفة عامة، لكن تظل أغنية (ستنتهي الحرب) علامة فارقة فى مسيرتها الفنية، حيث أشعلت الجدل مؤخرا جراء تطرقها لموضوع لم يسبق تناوله غنائيا من قبل، كما أنها فى الوقت ذاته تمثل صرخة فى وجه (الثكالي والمظلومين) فى العالم العربى، وتسرد معاناة الشعوب العربية بصوت خلاب يخاطب القلوب قبل العقول.
وهنا لابد لي أن أتساءل في دهشة: ماذا تريد (مؤسسة محمود درويش) من (كاول سماحة) التي اختارت أن تغني قصائده في زمن التيه الغنائي، كي تسكت غربان المهرجانات وغيرها من متشردي الغناء؟!، غير أني أسوق لهم قول الشاعر الجميل والرقيق صلاح جاهين الذي تمرد عليه قلمه فقال :
غمست سنك في السواد ياقلم
علشان ماتكتب شعر يقطر ألم
مالك جرالك إيه يامجنون .. وليه
رسمت وردة وبيت وقلب وعلم
أليس أجدر بهذه المؤسسة الآن أن تهدأ قليلا وتحاول أن ترسم قلبا حنونا يؤلف بينها وبين القيمة المتمثلة في (كارول)، وتتوجها بوردة تزكم رائحتها الطيبة أنوفنا فتشفى نفوسنا من بعد كل هذ الضيق الغنائي الرديء، وبيتا يضمنا تحت سقفه أمة واحدة سواء، فربما نسترد مجدها الأغنية القديم، بعد أن نلملم جراحنا المفتوحة والنازفة منذ سنين، ومن يدري ربما تشرق شمس جديدة علينا وسوف تقدر معها سواعدنا أن ترفع علما يرفف بالحرية في سماء بلادنا الطيبة المبدعة بفنها وعطائها ونجومهما التي تلمع في أي مكان .. وقتها فقط لن نغني ثانية مع جاهين:
عبثا باقول وأقرا في سورة عبس
ماتلومش حد إن ابتسم أو عبس
فيه ناس تقول الهزل يطلع جد
وناس تقول الجد يطلع عبـث
وعجبي
ولعل (كارول) التى قدمت مولودها الاستعراضى الراقص الأخير (الألبوم الذهبي) الذى لطالما حاكى خيالها – كما عبرت – والذى اعتبرته ثورة في عالم الغناء الرصين على جناح القصيدة كي تنهض من رحم المصاعب، وتقف صامدة فلا تبخل بذرة جهد فى سبيل تحقيق أهدافها، فقد أضاءت سماء لبنان ومصر بمجمل أغانيها خاصة قصيدتي (بيروت، وطيور النيل) بهذه الاستعراضات المبهرة، بعد أن كان الظلام قد خيم علي عالمنا العربي منذ فترة وأطلقت شعلة الاستعراض الراقص التى انطفأت منذ زمن، لتقوم بما هو أصعب، ولتعبد الطريق لمن سيأتى بعدها، بعد أن اقتحمت أشواكها بعزيمتها وإصرارها وإيمانها بقدراتها على تحدى المستحيل.
تألقت (كاول سماحة) في (الألبوم الذهبي) كما كانت دائما وأبدا عبر مسيرتها الفنية فى مجال الغناء الاستعراضى بأسلوب احترافى لا يقوم على النص فقط، وإنما على لقاء النص بالموسيقى والإخراج والغناء والرقص والسينوغرافيا والإضاءة وغيرهم، وهى فى كل مرة تجعل العرض بأدائها المميز يتنامى تناميا دراميا، ويعتمد على تلاحم المشاهد واللوحات وإيقاعاتها المتتالية، وهى تلمس ذروتها فى مشاهد المعارك التى تستوحى الملحمية السينمائية، وخصوصا عبر لعبة الإضاءة والسينوغرافيا والإكسسوارات الباهرة، الأسهم، النار، البيارق، وغيرها من عناصر فنية أخرى تؤكد قدرات (كارول سماحة) على التجسيد بالغناء والرقص، لتصبح فى النهاية جديرة بلقب (سيدة المسرح الاستعراضى) بلا منازع.
أخيرا لابد لي أن أقول: إن (كارول سماحة) فنانة مطربة من الطراز الرفيع والمميز واللافت، تعرف كيف ترسم أفق حضورها وصوتها في المساحة السمعية والبصرية، لا تحيد عن خط التفوق والإبداع ، وتجربتها الفنية الغنائية الغنية والثرية ترسم كل هذا التفوق المميز، صوتها الدافيء العذب، نبرتها المدوية كانطلاقة حصان عربي أصيل في هدوء صارخ، إطلالتها الصافية الرصينة الرزينة، براءة مشاعرها أثناء الغناء، حضورها الاستعراضي الذي يخطف الأبصار عبر الفيديو كليب، والمساحة السمعية والبصرية في مدى حضورها، كلها تشهد على خصوصية الفنانة التي عرفت كيف تحفظ جوهر الإبداع عن كثب وثقة وخبرة وعلم.
وأضيف: قدمت (كارول سماحة) حالة من الرومانسية الحالمة بإحساس صادق يفضي إلى المتعة الخالصة والتعبير بصدق عن الحرية، فضلا عن حالة من البهجة والشجن والحركة والطرب المشغول بنبض وخفقات القلب، هذا هو الإحساس الذى سيتركه فى نفسك ألبوم كارول سماحة الجديد (الألبوم الذهبي) بعد الاستماع إليه، وخاصة أنه فى السنوات الأخيرة أصبح ألبوم جديد لكارول يعني موعد جديد مع الحياة، مع الثقافة، مع الفكرة المبتكرة غير المطروقة، مع أشكال مختلفة من الموسيقى مثل (البوب ميوزيك، الأوريجينال، المقسوم، الدرامي) وغيرها، فهى حريصة على أن تكون كل أغنية لها مختلفة تماما عن الأخرى من حيث الفكرة والموضوع والموسيقى، وأجمل ما فى ألبوماتها أنها لا تبوح بسرها من المرة الأولى، لابد أن تستمع إليها عدة مرات حتى تتفضح عن أسرارها وتبرز لك جمالها.