بقلم الأديب الكبير: حجاج أدول
في الحلقة الثالثة: نعود للرائعة (يا مسافر وحدك) تلك الأغنية الفذة تلحينا والجميلة في كلماتها البسيطة، تُرى: هل كان عبد الوهاب العبقري قد وضع اللحن، ثم ركّب عليه حسين السيد تلك الكلمات؟ لم أكن أعرف ثم عرفت.. كنت مش عارف ثم عرفت.. اللحن الأساسي لحن يوناني/ روسي! (أنا محتار هي يونانية ولا روسية؟)، تم نشر الأغنية اليونانية فوجدناها طبق الأصل هي لحن (يا مسافر وحدك!)، ويستطيع أي متصفح لجوجل أن يسأله عن الأغنية اليونانية الأصلية لأغنية يا سافر وحدك.. سيستمع لها.. ويقال أن الأغنية أصلا يونانية!، وإن قيل بلد ثالث فسيضيع دم الأغنية بين القبائل.
في حلقة من البرنامج التليفزيوني (سيداتي سادتي) التابع لقناة (العربي2)، كان مذيع البرنامج الأستاذ (عارف حجاوي) صرح بأن أشهر السارقين هو محمد عبد الوهاب! ثم يتلاعب بنا ويسمعنا مقطعا موسيقيا نعرف كلنا أنه من أغنية (فاتت جمبنا) التي أذيعت عام 1974، وهى من تأليف نفس مؤلف أغنيتنا (يا مسافر وحدك)، ثم يقول عارف حجاوي أن اللحن مسروق.. ثم يسمعنا نفس المقطع الموسيقى ويقول أنه من أغنية (أرخت عمان جدائلها)، واللحن للمؤلف الموسيقي الأردني جميل العاص، لكن عارف يفاجئنا بملعوبة.. أن هذه المرة السارق هو الأردني جميل العاص! فأغنية (أرخت عمان جدائلها) أذيعت بعد أغنية (فاتت جمبنا) بسنوات! أي عبد الوهاب نال البراءة.
وإن اعترف الفنان الكبير محمد عبد الوهاب أنه اقتبس (موازير) من ألحان غيره، فهذا لا ولن يقرر من موهبته العظيمة، ويقال أن مخارج ألفاظه بها عيوب، لنقل هذا، لكن علينا جميعا الاعتراف بأن عبد الوهاب عاصفة فنية جددت وجملت وأمتعت وأبهجت الملايين.. فنان ابتدع الجديد وكأنه فريق تلحيني متنوع العطاءات وهو واحد فقط!، لذا فمن السخف أن نختصر هذا الجبل الفني في اقتباس اقتبسه.
عودة لبرنامج (سيداتي سادتي) في نفس الحلقة المشار إليها، الأستاذ عارف حجاوي يقول ما نسب للفنان ذائع الصيت (بيكاسو) أنه قال (الفنان الجيد يقلد، والفنان العظيم.. يسرق!)، قول غريب من فنان عالمي عابر للعصور، ما فهمته أنا على قدر استطاعتي، بيكاسو يقصد أن الفنان الجيد يقلد بمقدرة لكنه لا يضيف إبداعا على ما يقلده، لكن الفنان العظيم يتشرف بالعمل الفني الذي سرقه، ثم يبدع منه ببصمته الخاصة المتميزة حتى عن الفن الذي سرقه!
ربما سنة كاملة وأنا مشغول في روايات شهرزادية عجائبية، كان زادي الموسيقي يتركز على سيمفونية (شهرزاد) لرامزي كراساكوف.. تلك الرائعة التي بزعت عام 1888!.. لنتخيل كم عام مر على مولدها ونحن الآن في بدايات عام 2022؟ مائة أربعة وثلاثون عاما!.. سيمفونية (شهرزاد) ذهبت واستقبلت في كم بلد من البلدان؟ وكم فردا سمعها سواء في الراديو أو في الوسائل الحديثة، أو استمع لها في حفلات سيمفونية؟.. لنقل ثلاثة مليار مستمع؟.. نعم فليس هذا الكم بكبير، فالشعب الروسي حاليا قارب المائة وخمسين مليونا.. لنقل متوسط مائة مليون كل جيل منهم من يوم أن بزغت سيمفونية (شهرزاد) إذن مليار روسي سمعوا السيمفونية!، فكم مليار من الشعوب الأخرى سمعتها.. ولا تنسى إنهم شعوب أجيالها كالموج تأتي وتذهب بعد أن تكون قد استمعت وأنتشت، بل ليست سمعت وانتشت فقط، بل وشاهدت بالفعل، شاهدت الفرق السيمفونة وهى تعزف في حفلات أنيقة فاخرة، وأيضا شاهدت سيمفونيات تحولت لأوبريتات.. وبالطبع قولي هذا ينسحب على كل الموسيقيين الكبار من المعروفين تماما مثل بيتهوفن والمعروفين على الضيق مثل الذين لا أعرفهم.
عاش ومات (فان جوخ) فقيرا مجهولا، بل في بعض الأوقات منبوذا!.. نعم، والآن كل لوحة من لوحاته تباع بالملايين!، (موديلياني) كذلك كان بائسا، لكن (بيكاسو) ليس كذلك.. نعم.. عاش (بيكاسو) أغلب سني حياته مرفها منعما، لكنه يشارك جوخ ومودلياني وغيرهما أن كل لوحة من لوحاته تباع بالملايين.. إنه الفن التشكيلي الرائع.. كم مليار شاهدوا اللوحات العالمية الشهيرة؟.. كم مليار شاهدوا نسخا منها؟ والتماثيل، وحين نتكلم عن فن النحت الفرعوني والأفريقي واليوناني والصيني والحديث، كلام يطول.. إنه بحر الفن الذي ليس له شواطئ.. سمعنا قديما مصطلح (بحر الظلمات) أي البحر المخيف المرعب، من يبحر فيه فهو قد أبحر في بحر ذهاب ليس له إياب.. والفن بحور بلا شواطئ، من أبحر فيها وحاول أن يحددها منطقيا بالتمام والكمال، فهو قد أبحر في بحور ذهاب بلا إياب.
قلنا عن الأغاني وعن الموسيقى وعن الفن التشكيلي، ونقول أيضا عن الفن المسطور كتابة.. فمن الزمن القديم حين تم اكتشاف الكتابة التي بدأت عن طريق الرموز مثل الأسد والبومة وأمواج النيل إلخ.. واللغة المسمارية التي حفرت في الطين.. ثم تطورها حتى صارت بما نحن فيه الآن.. الفن المسطور كتابة من أساطير وألغاز وأحاجي وأغاني وحكايات وروايات وقصص، الفن المكتوب شعرا ومسرحا.. فنون أفرعها لا تُعد ولا تُحصى.. نبدأ بالمبدع الأكبر، المبدع أحسن الخالقين رب العالمين، في قرآنه الكريم.. نزل بالعربية على بشر فنونهم تركيزها على فن الشعر، أي على اللغة، فكان القرآن الكريم إعجازا أعجزهم عن تقليده.
الجمال الفني يأتينا من البداية، من عنوان الأغنية وهو أيضا أول جملة فيها (يا مسافر وحدك)، فالجملة عبقها عامية مصرية، لكن كلمتها الثانية (وحدك) هى فصحى تماما.. فلم يقل مؤلفها كلمة (لوحدك) وهى عامية كما نسيج العنوان ونسيج الأغنية كلها.. قال (وحدك) الفحصى، فكان هنا جمال استهلالي طيب.. ألا يذكرنا هذا بعنوان أول مجموعة قصصية كتبها الرائع يوسف إدريس (أرخص ليالي) هنا العكس.. العنوان من كلمتين مثل عنوان الأغنية، لكن هنا الكلمة الثانية عامية وروح الجملة فصحى! لكن العبقري يوسف إدريس بفطرته أحس فصمم على أن تكون الكلمة الثانية عامية (ليالي) وليس فصحى (ليال!).
نختتم بالقول: نحن إزاء أغنية ساحرة بالفعل، أغنية (يا مسافر وحدك) أغنية ساحرة.. أغنية استمعنا لها ونستمع وسنستمع لها.. أغنية رغم أنها أذيعت عام 1942 في فيلم ممنوع الحب إلا أننا لا نستطيع أن نقول عنها أغنية قديمة!.. نع مهي وُلدت عام 1942 لكنها حديثة، ألسنا نستمع لها ونستمتع بها للآن؟.. إذن هى وأمثالها من الفنون التي بزغت منذ زمن ومستمرة للآن، يمكننا أن نقول عليها أنها فنون قديمة/ حديثة.. أو نقول أنها فنون عابرة للأجيال، (يا مسافر وحدك) أغنية قديمة تعاصرنا كما عاصرت أجيال من قبلنا، وستعاصر أجيال من بعدنا، (يا مسافر وحدك) أغنية تحوي سحرا يمد في عمرها.. من أبدعوها ذهبوا وهى مستمرة!.. من استمعوا لها في وقت بثها ذهبوا، لكن الأجيال الحاضرة مستمرون في الاستماع لها!.. وهذا هو الفن.. رحم الله الفنان محمد عبد الوهاب.. رحم الله الفنان حسين السيد.