بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
امتلأت صفحات التواصل الاجتماعى – منذ أن أصبحت مجالا للارتزاق يدر دخلا طيبا – بمئات الفيديوهات والكتابات عن كل شيئ يخص الانسان، بداية من التاريخ وحتى العناية بالأظافر، ووجد البعض أن من ضمن الموضوعات المثيرة للمشاهدين والمحفزة على تحقيق مشاهدات كثيفة هى التاريخ المجهول أو المنسى – كما يزعمون – عن الحضارات القديمة أو ما قبل التاريخ، وبعض تلك الموضوعات يتماس بشكل مباشر مع الأديان، ومن المعروف أن الثلاثى الشهير الذى يقبل عليه المشاهد هو: الدين والسياسة والجنس، ولذا سنجد أن تلك المواد هى الأعلى مشاهدة.
وإذا كان بعض دارسى التاريخ حاولوا تقديم الأمر باعتدال وموضوعية، إلا أن هناك مئات (البراغيث) التي تمتص معلومة من هنا وأخرى من هناك لتصنع محتوى متهافت قائم على النقل والاقتباس بلا عقل أو منهج، و يسعون خلف كل ما هو غريب و عجيب، وبسبب تماس الدين والتاريخ فقد وجدنا بعض الذين يملكون خلفية دينية دراسة وعلما افتوا في موضوعات تاريخية بلا سند من الدراسات الرصينة في مجال التاريخ أو الأركيولوجى، بل اعتمد بعضهم على كتب المفسرين الأوائل، التي تمتلأ بذكر تفاصيل الأحداث وأسماء من قاموا بها وكأنهم عاشوا تلك الفترات، و من ضمن الموضوعات المنتشرة بكثرة على مواقع التواصل (الطوفان) بكل الأسئلة التي حوله: كيف كان الطوفان؟، وما حجم سفينة نوح؟، وأين استقرت؟، و ما الحضارة التي سبقته؟.. إلى آخر تلك الأسئلة التي بلا إجابات.
ومن قبل هؤلاء شغلت نفس الأسئلة عشرات الباحثين والمؤلفين والكتاب حول العالم وحاولوا إيجاد إجابات لها: هل هو طوفان عم الكرة الأرضية كلها أو معظمها؟، أم هو فيضان محدود في أحد الأنهار المحلية جرى تضخيمه؟، وتعمقوا في أسباب الطوفان ونتائجه، فالذين قالوا باتساع الطوفان استندوا إلى وجوده في الديانات السماوية وفي معظم أساطير الحضارات القديمة شرقا وغربا، مما يجعل لب الحدث أو جوهره منتشر في كل أرجاء العالم، مما يدل على عالمية الطوفان، ولكنهم اختلفوا في أسبابه، فبعضهم يرجعه إلى مذنب ضرب الأرض في نهاية العصر الجليدى وآخرين يرجعونه إلى حرب نووية بين حضارات قديمة كانت متقدمة وعلى قدر عال من التطور عاشت على الأرض وذكرها البعض مثل حديث أفلاطون عن القارة المفقودة!!
أخذ كل جانب منهم يحاول إثبات نظريته، و لكن البعض شطح إلى حد الجنون، ففي أحد برامج قناة (History) دار الحديث على أن الطوفان صنعته حرب نووية بين كائنات فضائية خارجية وبين كائنات أخرى سكنت الأرض وامتزجت بالبشر وتناسلوا فأنتجوا جنسا ثالثا كان مسخا جبارا لا يدين بالأخلاق أو السلوك القويم كأى نوع من المسوخ، وهنا رأت الكائنات الفضائية التي صنعت البشر أن ترسل أحد مندوبيها ليجمع الباقى من النسل البشرى للحفاظ عليه وأن تتخلص من باقى المسوخ بالحرب النووية التي تسببت بطوفان ضخم!، والغريب أن صاحب البرنامج استمات في أن يثبت أن نبى الله (نوح) يحمل صفات غير بشرية من الناحية الجسدية، و أن عمره الذى يقدر بألف سنة يدل على أنه ليس ببشر مثلنا، و استعان ببعض تفسيرات للعهد القديم حول النور الذى كان يشع من وجهه – عليه السلام – ليقول لنا أنه ينتمى لرواد الفضاء القدامى!، ولذا قدسه الناس و ظنوا أنه رسول الإله في حين أنه مبعوث تلك الكائنات!
ولإضفاء بعض (العلم) على تلك الشطحات أخذ البرنامج يناقش مواصفات وحجم (سفينة نوح) وكيف اتسعت لكل المخلوقات التي حملتها؟ وأجرى مقدم البرنامج عدة حسابات عن عدد المخلوقات والمساحة التي تحتاجها، بما فيها أقفاص للحيوانات المتوحشة، وأخرى للطيور، ومخازن للطعام وللماء تكفى كل هذا العدد طوال أيام الطوفان، المختلف في عددها – أقلها أسبوع وأقصاها سبعين يوما – فوجد أنه من المستحيل أن تتسع سفينة لكل هذا، فوصل إلى حل يبدو علميا يقبله العقل المعاصر وهو أن نوح لم يحمل معه كائنات حية في سفينته وإنما معمل صغير يحتفظ فيه بـ (DNA) لكل هذه المخلوقات!.
ويوضح لنا صاحب الاكتشاف الجنونى كيف تحول الـ (DNA) بالاستنساخ إلى مخلوقات حية مرة أخرى، أما كيف تم هذا الاستنساخ ؟ فلا أحد يعرف ولا صاحب البرنامج وعندما تسأله سيجيب عليك سنكتشف ذلك فيما بعد!، أما (كيف تم استخلاص المادة من كل هذه الكائنات؟) فليس سؤالا مطروحا مادمنا نتكلم عن كائنات فضائية متقدمة عنا بملايين السنين.
على الجانب الآخر هناك من رأى الطوفان من زاوية دينية واستند إلى تفسير آيات القرآن الكريم، ولكن أغرب تلك التفسيرات التي خرجت عما هو متعارف عليه ومشتهر لدى الجمهور، ما قدمه الدكتور (على منصور الكيالى)، وهو مهندس سورى من مدينة حلب جذبته الموضوعات الدينية بعد أن تجاوز الثلاثين فقدم عدة حلقات تليفزيونية يحاول فيها تقديم رؤية معاصرة للتفسير، ووصفه البعض بالمجدد للخطاب الدينى، ولكن تجديده هذا جلب عليه كثير من العداوات والاتهام بالهرطقة، مثله مثل مواطنه السورى – الذى سبقه وكان مهندسا أيضا – الدكتور محمد شحرور الذى يستحق قراءة منفتحة ومتأنية.
يقول الدكتور الكيالى، من خلال تفسيره لألفاظ القرآن الكريم، أن الطوفان كان محدودا ولم يشمل العالم كله، وأنه كان في منطقة صحراوية تمتلئ بالجبال، لا نهر ولا بحر بها، وإلا ما سخر قوم نوح منه، فلو كان يبنى سفينة في مكان به شاطئ لكان الأمر منطقيا ولا يبعث على السخرية، وأن سفينة نوح لم تكن ضخمة بل وصفها القرآن بأنها (فُلك) أي مركب صغير تم بناؤه بألواح خشبية وحبال فقط (ألواح و دُسّر)، ويرى الكيالى هذا دليل على صغر الحجم، في حين يرى المفسرون أن (فُلك) تعنى الشكل الوعائى ولا يشير اللفظ إلى الحجم، فالرواية التوراتية في سفر التكوين تصف حجمها: ( ثَلاَثَ مِئَةِ ذِرَاعٍ يَكُونُ طُولُ الْفُلْكِ، وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ، وَثَلاَثِينَ ذِرَاعًا ارْتِفَاعُهُ) أي أن الطول يقارب 140 متر والعرض 23 متر، أما الارتفاع فيقارب عمارة من خمسة أدوار!
ويتفق الدكتور الكيالى مع معظم المفسرين أن الفلك لم تحمل كل كائنات العالم، فالطوفان لم يعم الأرض بأكملها وأن السفينة لا تتسع لحمل هذه الأجناس كلها وأن نوحا لم يكن مكلفا بأن يجوب العالم كله بحثا عن كل الكائنات، ولكنه يزيد على ذلك بأن الفلك لم تحمل سوى ثماني أزواج من الحيوانات استنادا إلى ماجاء بسورة الأنعام (من الضأن اثنين ومن الماعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين)، و لم يوضح الكيالى لماذا استند إلى هذه الآيات التي نزلت بعيدا عن موضوع الطوفان!
ويستمر طوفان آخر من الحلقات يقدمها علماء وجهلاء، عقلاء ومجانين، عن كل ما يخص التاريخ .