بقلم: ماجد كامل
بعد حصده عدد من جوائز (البافتا) أرفع الجوائز السينمائية البريطانيه وفى مقدمتها جائزة أحسن فيلم وبوثوق شديد تزحف رائعة المخرج الألماني أدوارد بيرجر (كل شئ هادئ على الجبهة الغربية – All Quiet on the Western Front) نحو الأوسكار، فالفيلم الذي انتجته شبكة (نيتفليكس) تدور أحداثه حول الحرب العالمية الأولى والتى قدمت على مذبحها أكثر من 17 مليون شخص هم ضحايا هذه الحرب التى دارت رحاها على مدى 5 سنوات وكانت حتى وقت نشوبها بمثابة المذبحة الأوسع والأكثر دموية فى التاريخ، وانتشر دمارها فى بقاع كثيره على مستوى العالم حتى جاءت الحرب العالمية الثانية لتغطى عليها فى أعداد الضحايا حيث قتل خلالها 60 مليون إنسان على مستوى العالم.
وتلعب السينما دورا مهما على مدى تاريخها الممتد فى التحذير من القادم ومحاولة رسم ملامحه العامة، وتستعين في ذلك بالتاريخ فالكثير من أعمالها على مستوى العالم تقدم الحرب بوصفها الحماقة الكبرى حيث حذرت عشرات الأفلام من حدوثها وتوقعت نتائجها المدمرة، ورغم ذلك يقترفها البشر دون ندم.
وتشي الطبيعة الإنسانية بأن تلك الآلية البشعة التي تدعى الحرب ليست مجرد اختيار خارج عن إرادة القائد يضطر إليه كحل أخير، وإنما هي جزء من الطبيعة الإنسانية، وليس أدل على ذلك من تطوير أدوات الحرب مع التقدم التكنولوجي والحضاري، بيد أن المنطق يقول إن الارتقاء الإنساني يفترض أن يصحبه انقراض الأدوات العنيفة للصراع، وفى هذا الاطار تأتي النسخة الجديدة من فيلم (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية All Quiet on the Western Front) للمخرج الألماني إدوارد بيرجر، لتؤكد ذلك أن كلا من السينما والأدب يقدمان التحذيرات المتكررة لمناهضة الحرب، خاصة بعد تجربة الحرب العالمية الأولى.
إحداث الفيلم
تدور أحداث الفيلم خلال الحرب العالمية الأولى حول المراهقين باول بومر (الممثل فيليكس كامرير) وصديقيه ألبرت (الممثل آرون هيلمر) ومولر (الممثل موريتز كلاوس)، الذين تطوعوا للانضمام إلى الجيش الألماني، راكبين موجة من الحماسة الوطنية سرعان ما تبددت بمجرد مواجهة الحقائق الوحشية للحياة على الجبهة.
تنهار تصورات (بومر) المسبقة عن العدو وحقوق وأخطاء الصراع، ومن المصيب ومن المخطأ حيث يُفرض عليه أن يواصل القتال حتى النهاية، دون أي غرض سوى إرضاء رغبة كبار الضباط الذين رفضوا الاستسلام وإنهاء الحرب، رغم الخسائر الفادحه من الجنود .
انطلق الكاتب من واقعة حقيقية خلال الحرب العالمية الأولى استمرت 4 أعوام، حيث قتل أكثر من 3 ملايين جندي من أجل التقدم مئات الأمتار في الشمال الفرنسي لصالح الألمان.
تجاوز المنهج السردي
تجاوز الروائي الألماني (ريمارك) في روايته الصادرة بين الحربين العالميتين، والمأخوذ عنها الفيلم المنهج السردي المتعارف عليه، حيث يحكي كل طرف قصته، لقد نظر المحارب القاتل في وجه المحارب المقتول، فاكتشف أن خصمه إنسان بكل ما تعنيه الكلمة، هو يتألم ويبكي ويحلم أيضا. وتلك الصفات تبدو على العكس تماما مما نقلته له قيادته التي أكدت أن ذلك العدو وحش لا يشعر ولا يفهم، وهو قاتلك إن لم تقتله.
فالبطل هنا هو مراهق لم يتجاوز بعد سن الطفولة حسب القانون، التحق بالجيش قبل أن يتم أعوامه الـ 18 الأولى بعد أن زور تاريخ ميلاده من شدة الحماس للحاق بالحرب.. يكتشف كل أسباب الموت من الرصاص والشظايا، والإحراق بالنار والإجهاد وتصدمه إصابات الرأس والصدر التي تؤدي بزملائه وأعدائه – على حد سواء – إلى الموت.
يدفعه الرعب إلى التساؤل عن الأسباب، وعن ذلك الآخر الذي ينبغي إبادته، وكيف يكون، ليكتشف أن العدو هو (الحرب) نفسها.
في الرواية قرر (ريمارك) ألا ينحاز لطرف، وإنما انتصر للإنسان ضد الحرب، ولأن الكاتب نفسه تلقى تدريبا عسكريا شاقا، فقد رسم الصورة الرهيبة لويلات الحرب على مراهقين خرجوا من أحضان أمهاتهم إلى عالم من النار والدماء والموت وقتل البراءة.
النسخة الألمانية تكسب
تختلف النسخة الجديدة من الفيلم الذي سبق ان قدمته هوليود مرتين في تخلصها من المشاهد التمهيدية لتحفيز الطلاب الألمان على الالتحاق بالحرب، إذ نراهم في المشهد الأول وقد قرروا المشاركة بحماس واضح. لم تهتم النسخة الألمانية بالمذابح على الأرض فقط ولم تصورها بدقة فقط، ولكنها قامت بتكثيف درامى إذ ارتدى البطل المراهق حلة عسكرية أكبر من مقاسه، كان المشاهد قد رآها على جسد زميل سابق أودت به الحرب وسوف ينتهي الفيلم بزميل جديد ينزل القلادة التي تحمل اسم البطل وملابسه في حبكة لا نهائية من قصص القتل في الحرب.
في فيلمه، استخدم المخرج (إدوارد بيرجر) مشاهد منتظمة الإيقاع ليصور أسباب الموت في الميدان وتنوع الإصابات المؤدية إليه وبشاعة ومأساوية الموت الجماعي لشباب في عمر الزهور، ثم انتقل بمونتاج شديد التميز إلى فصل كامل من المشاهد المتتالية التي تصور مراحل إنهاء وجود الشخص عبر نزع القلادة التي تحمل اسمه وتاريخ ميلاده من جثته، بالإضافة إلى ملابسه التي كتب اسمه عليها ليتم قيد تاريخ الوفاة في سجل، ثم نزع الاسم من على الملابس واستبداله باسم جديد والتخلص من الجثث، ومنح الملابس لشاب جديد في انتظار الموت للمرور بالخطوات نفسها.
(باول بومر) شاب عادي، لا تميزه قوة جسمانية فائقة ولا ذكاء يتجاوز به أقرانه، وهو لا يظهر شجاعة من أي نوع سوى تلك التي تولد من رحم اليأس حيث ينبغي أن يقتل بدلا من أن يموت، يعبر (باول) عن خوفه بشكل مثير للشفقة، وقد ساعد أداء الممثل (فيليكس كامرير) على انتقال المشاهد من مقعده إلى موقع الحرب وشعوره بالأخطار المحيطة والرصاص المتطاير وضيق الخنادق والأرض الموحلة الغارقة في الدماء.
بلاغة بصرية
لا توجد نهايات سعيدة في الحروب ولا في أفلامها، من ينجو من الموت يعود مصابا في جسده أو عقله أو روحه، وفيلم (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) ليس استثناء من ذلك، قد يشفع للرواية أن قارئها هو من يتخيل الأحداث والأشكال والديكور والمكياج وغيرها من عناصر الحياة التي تدور بداخلها، لكن في الفيلم يشاهد ما تخيله المخرج ونفذه فريق عمل.
كان فريق العمل في الفيلم محترفا إلى حد مدهش، فلا شيء سوى الدماء والموت والجوع، التناقضات الصارخة بين عيش المحارب وعيش قائده، لكن تلك المشاهد لن تحول عيني المتابع عن الشاشة حتى النهاية.
قدم صناع العمل فيلما يحفل بالبلاغة البصرية، والجمال الذي يلفه الحزن والغضب والرغبة العارمة في التحرر من غريزة الرغبة الوحشية في القتل. وشمل المشهد الرئيسي أداء رائعا ومكياجا دقيقا وحركة كاميرا داخل الكادر امتزج خلالها الصوت بالموسيقى.
يفاجأ (باول) المرتعد بجندي فرنسي يسقط إلى جواره في خندق كبير نسبيا، فيسرع إليه ويطعنه عدة طعنات، وحين يصبح على شفا الموت يتوقف باول. يصاب بالذهول مما يراه، فخصمه يعاني سكرات الموت، وهو يحاول أن يعالجه، لكن يموت.. يصاب بأول بانهيار شبه تام ويبحث في جيوب ضحيته، ليكتشف أن له زوجة وابنة.
تتكبد القوات الألمانية خسائر بشرية هائلة في الشمال الفرنسي، وينتقل وفد ألماني للتفاوض مع القيادات الفرنسية.. يتجلى التناقض الهائل بين حياة الجنود في الخنادق والموت والجوع والحرمان، في مقابل الرفاهية النسبية التي يعيش فيها القادة بدءا من أناقة القطار والملابس إلى حركتهم الهادئة المطمئنة.
وتقف مزاعم الشرف والكرامة حائلا دون وقف إطلاق النار، وبعد أن توافقت الأطراف المتحاربة على الهدنة، يحاول قائد الجيش الألماني استغلال اللحظات الأخيرة قبل تنفيذ وقف إطلاق النار.
إذا كانت ألمانيا قد خسرت الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإن النسخة الجديدة من فيلم (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) كسبت رهان السينما، وسوف يقف هذا العمل جنبا إلى جنب مع فيلم المخرج الأميركي تيرانس ماليك (الخيط الأحمر الرفيع – (The Thin Red Line الذي أنتج عام 1998 ويعد أحد أفضل أفلام الحرب في السينما.