بقلم: محمد شمروخ
دون حاجة للانتظار لما سيكون عليه مسلسل (معاوية) إلا أن المسلسل قبل وبعد وخلال عرضه، لابد أن يثير ضجة ما، كاذبة كانت أم صادقة.
فالأحداث المتعلقة بزمن وطبيعة شخصية (معاوية ابن أبي سفيان) التى لا تخفى عمن اطلع على مصادر تاريخ تلك الفترة. مادة ثرية تصلح لإنتاج مسلسلات مطولة وليس مسلسلا واحدا، فهى لاتزال على الرغم من مرور أربعة عشر قرنا من الزمان، حية في كثير من النفوس وشهدت ما لم تشهده فترة أخرى في تاريخ المنطقة من قديم أو وسيط أو حديث، من الاختلافات حولها. بجانب أنها قتلت بحثا إلى الزمن المعاصر.
إنها فترة تتميز عن بقية الفترات بأنها مازالت نابضة في الضمير الإنسانى بأحداثها وشخوصها وإحباطاتها ومراراتها.
ولعله قرار يستحق الإشادة أن يتم إنتاج مثل هذا المسلسل عن هذه الشخصية المؤثرة في تاريخ المنطقة والتى مازال أثر ما فعلته باقيا، حتى أنه عند كثيرين يصلح أن يكون أول حلقة يرجعون إليها عند تناول تدهور أحوال الأمة الإسلامية، لاسيما فيما يتعلق بالسياسة والحكم وبشخصيات الحكام وكيفية اختيارهم.
وأهم ما يمكن استثمار مسلسل (معاوية) من أجله، هو دور الدراما التاريخية الأساسي في التنبيه على المحطات الرئيسية في مسيرة التاريخ، وتعريف الأجيال التى لم تقرأ بما جهلته.
فقد راعنى أنه على الرغم مما كتب عن تلك الفترة الصاخبة والتى أقصد بها ما يطلق المؤرخون عليها (الفتنة الكبرى) من قدماء ومحدثين، إلا أن الكثيرين لا يكتفون بجهلهم الكبير من أحداثها بل يرددون ما يمكن أن يصيب أى مطلع على التاريخ ولو سطحيا، بما يذهل.
فلقد سمعت على سبيل المثال، من بعض المفترض أنهم متعلمون تعليما عاليا، أن معاوية وراء مقتل الحسين بن على (رضى الله عنه!!).
فهذه ليست مجرد معلومة خاطئة، بل جريمة كبرى يرتكبها من يتناولون بمنتهى الثقة العمياء، بعض الأحداث التاريخية ويكونون آراءهم بناء عليها.
كذلك يمكن أن يكون المسلسل سببا في تناول بعض الأحداث بالنقد لمواقف وأفعال صدرت من معاوية بن أبى سفيان، لا يمكن الدفاع عنها، فمعاوية ليس فوق النقد والمراجعة، ولقد سبق أن وضع المفكر الكبير عباس محمود العقاد ميسمه على سيرته بكتاب صغير في حجمه لكنه خطير في تناوله، حيث وجه سهامه إليه ومحص شخصيته، حتى اتهمه بعض الباحثين بالتحامل عليه، فقد نفى العقاد عن معاوية أهم صفاته التى يحمدها الناس فيه وهى الحلم، حتى أنه اتهمه بالانتهازية اتهاما صريحا، وحتى الدهاء الذي اشتهر به نفاه عنه العقاد!
والكتاب حمل عنوانا جريئا (معاوية بن أبى سفيان في الميزان).. (وقد قام بعض الناشرين مؤخرا ممن استباحوا لأنفسهم تعديل العناوين لكتب الراحلين فطبعوه بدون كلمتى في الميزان).. بل وصل الأمر ببعض الدعاة السلفيين بتكفير العقاد بسبب أنه تجرأ على واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في الميزان!.
……………………..
وبمناسبة هذا العنوان فقد أصدر العقاد نفسه كتابا عنوانه (هتلر في الميزان)، صب فيه جام غضبه على هتلر وكان هذا الكتاب سببا في محاولة بعض الشباب الوطنيين المتطرفين اغتيال العقاد بإطلاق الرصاص عليه في منزله، من منطلق تشيعهم لألمانيا النازية والغازية لمصر وقتئذ، ظنا منهم أنها ستخلصها من الاحتلال البريطاني.
(العجيب أن أى من المتطرفين دينيا في ذلك الوقت لم يفكر في اغتيال العقاد بسبب كتابه عن معاوية).
……………………..
لكن المسلسل سيفرض على الساحات الثقافية الواقعية والافتراضية، تناول معاوية وزمانه مرة أخرى، ومهما سيرتكبه البعض من حماقات ما بين هذا وذاك ولأسباب الخلاف المراد تأجيجه بين السنة والشيعة، إلا أن إعادة طرح مثل هذه الأحداث للمناقشة هى واحدة من أهم آثار الأعمال الدرامية، فلن نسمع قصصا للتسلية، بيد أن أحداثا مريرة ستصادفنا لا محالة في مسيرة معاوية لو تم تناولها بصراحة، مثل إرساله جيش (بسر بن أرطأة) الذي ارتكب مذابح يندى لها الجبين في الحجاز واليمن، وكذلك مقتل حجر بن عدى ثم الفعلة النكراء بفرض ابنه يزيد!
كما لا ندرى كيف سيتم تبرير موقفه في واقعة حصار الخليفة ذي النورين عثمان بن عفان – رضي الله عنه، وتأخره عنه ثم مطالبته بالقصاص من قتلته واتخاذ ذلك حجة للمطالبة بالخلافة بعد ذلك، ولا من إعلانه الحرب على على بن أبي طالب – كرم الله وجهه لذلك السبب، ولكن بعد أن آلت إليه الخلافة لم يقم بذلك القصاص.
……………………..
وهناك رواية عن تبرير معاوية ذلك لإحدى بنات ذي النورين التى ذكرته عند مقابلته بثأر أبيها فما كا منه إلا أن أقنعها – بقدرته الفذة على الإقناع – بأنها خير لها أن تكون ابنة عم أمير المؤمنين من أن تكون مجرد ابنة عم رجل كغيره من الناس، وذلك بعد ما تم من عهود لتهدئة الأمور مع كثير من الذين شاركوا في قتل أبيها.
……………………..
سيكون هذا المسلسل سببا في إعادة انتشار كثير من الكتب التى تناولت تلك الأحداث سواء في مصادرها التراثية في أمهات كتب التاريخ أو في الدراسات التى أعادت طرحها وتحليلها، كما حدث من العقاد في كتابه السابق عن معاوية أو في كتابيه الآخرين (ذو النورين عثمان بن عفان) أو في (عبقرية الإمام)، وكذلك الكتاب الأشهر للدكتور طه حسين (الفتنة الكبرى) بجزئيه المتاحين بسهولة في المكتبات وعلى الإنترنت (عثمان.. وعلى وبنوه).
وكتب أخرى يسهل التوصل إليها.
وهذه هى الآثار الإيجابية للمسلسل لو لم يخيب رجاءنا في الدراما.
أما الآثار السلبية، فهى حتما ما سوف يثار عن كيفية وقوع فتنة بين جيل المسلمين المؤسس وكيف ضرب بعضهم أعناق بعض، كما ورد في الأحاديث التى حذر فيها النبي الكريم محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من هذه الفتنة التى لاتزال أصداؤها لم تخمد حتى الآن.
وكذلك ما سوف يثيره متطرفو الفريقين من السنة والشيعة من غبار، هو أمر متوقع وليس بحاجة إلى مسلسل لإثارته!
فالثابت تاريخيا أن الشعوب الإسلامية لم تتعلم من الدروس العظمى التى نتجت عن تلك الفتنة، ولعله من الغباء أن ننتظر ممن لم يتعلم من التاريخ أن يتعلم من المسلسلات!
وأرجو ألا يخيب المسلسل رجائي فيه إنتاجا وإخراجا والتزاما بالأمانة التاريخية، فبالرغم من خطأ الاعتماد على الدراما كمصدر للتاريخ إلا أنها إشارة نود أن تعمل على تذكير من أراد أن يذكًّر فتنفعه الذكرى، فلمثل هذا توجه الرسائل الحقيقية دون التفات لضجيج الحمقى هنا أو هناك، فأولئك لا نعدمهم في كل زمان ومكان وبمناسبة وغير مناسبة ولعل أمثال هؤلاء هم الذين قتلوا (عثمان) واغتالوا (علي)، بينما نجا منهم معاوية ويزيد!.