بقلم الأديب الكبير: حجاج أدول
بالطبع حين أنشغل في الكتابة، وَجَبَ على سماع الموسيقا والأغاني، فهما يعطيان خلفية فنية شيقة تساعدني على الإبداع. نعم، هذا حق. استمع لكل الأنواع الموسيقية والغنائية، هذا حسب حالتي النفسية المرتبطة تماما بنوعية ما أكتبه. وأحيانا أبحث عن الموسيقا والأغاني التي تنعنش وتنشط وتفرفش، لكوني في حالة تعب يسحبني بإصرار للتوقف عن استمرارية الكتابة. أقاوم الإرهاق وأحفز نفسي بتلك النوعية لأتحمل، واستمر حتى أنهي مشهدا أو أكثر من الأفضل أن أنهيهما وأنا في حالة فنية ما، ولا أريد أن أفقدها، فحين أعود للكتابة في وقت لاحق، ربما لن أكون في نفس هذه الحالة خاصة.
ذات وقت وأنا في حالة نشوة كتابية، وإذا بعبد الوهاب يشدو بأغنيته الرقيقة الرومانسية الرائعة (يا مسافر وحدك)، هذا في موقع مولانا جوجل الساحر. أغنية (يا مسافر وحدك) جميلة بحق. تركت الأغنية تسترسل، فماذا حدث؟ لم أكن أتوقع هذا! نفس الأغنية بأصوات أخرى وأخرى. ثم مددت الاستماع لمتتاليات الأغنية والمغنين، مفاجأة.. ما لا يقل عن عشرين مغنيا ومغنية يغنون نفس الأغنية التي غناها العبقري محمد عبد الوهاب، وهى من كلمات المبدع حسين السيد! نعم. ونعم كل غنى تلك الأغنية، يعطي لمحة ما من لمحاته الفنية مع توزيع موسيقى جديد، والأغنية واحدة! ثم فرق موسيقية تعزف موسيقى الأغنية بأكثر من توزيع، ثم أكثر من عازف منفرد يعزفها على آلة موسيقية ما، وكل منهم له بصمته الخاصة مع بصمة آلته الموسيقية! والصديق الأستاذ روبرت Robert Mattar يفضل أغنيتنا هذه بصوت وأداء الفنانة (غالية)، وغالية أعطت نكهة خاصة للأغنية، فهي تؤديها وهي في حالة انسجام رومانسي متفائل، خالية تقريبا من حالة الشجن التي في الأغنية أصلا!
غالية وهي تغني الأغنية ترقص فرحة مبتسمة ابتسامة الهناء رغم أسى الأغنية!، فهي قد خففت كثيرا من الشجن وأضافت تفاؤلا وثقة أكيدين، لنشاهد هذا الرابط حيث تغني غالية [يا مسافر وحدك]. أنا أعجبت بالأغنية بصوت عبد الوهاب ثم بصوت الفتى محمد إبراهيم الذي غناها في مسابقة عربية للموهوبين، أيضا للفتى (أليكس خوري)، وقد غنا في برنامج تليفزيوني. عن نفسي أقول أن أجمل صوت وإحساس بالأغنية كانت من المطربة شيرين، وسمعت الأغنية من مطربة شابة تغني بالجيتار، وهى من بلاد المغرب، ربما تونس أو الجزائر أو المغرب. وأضيف أن المطربة (داليا عمر) غنتها بروعة بمصاحبة مشهد سينائي (يوتيوب) يقل جمالا عن صوتها [يا مسافر وحدك]. ونقول أن المطرب (صفوان بهلوان) هو أفضل المطربين الذين يؤدون أغاني فنانا الكبير (محمد عبد الوهاب)، وبالطبع أعجبت بغيرهم، فمن الصعوبة بمكان تحديد مطربين لأن الذين غنوا تلك الرائعة كثيرون، وبالطبع سيأتي لاحقا أجيال فنية ستغني تلك الأغنية وغيرها، وغريبة.. الأغنية تسع معطيات إضافية تزيدها نكهات حلاوة، فيا للجمال ويا للروعة ويا لسطوة الفن. بالطبع نعرف جميعا.
سؤال: هل كان عبد الوهاب وحسين وهما يبدعان تلك الأغنية وغيرها، هل كانا يتوقعان كل هذا الانتشار وصبغها بكل هذه الألوان؟ هل كانا يتوقعان أن شعوبا عربية وغير عربية، ستستمع للأغنية وتستمتع بها؟ ربما كانا يتوقعان بعض هذا لكن بالقطع ليس كل هذا، نفس السؤال تُسأل به أم كلثوم به فيروز والرحبانية وعبد الحليم وليلى مراد وأسمهان وبالطبع جوقة من المؤلفين والملحنين، وأيضا يُسأل به وديع الصافي وناظم الغزالي وصباح فخري وصليحة ومعطوب الوناس الخ. فالقائمة ملحمية، بل نعود لسنوات ونقول نفس السؤال لسيد درويش، لكن.. لكن هذه تستوجب من أول السطر.
لكن هل أنا أتكلم عن (يا مسافر وحدك) وحدها؟ قطعا لا، ما يُقال عن (يا مسافر وحدك) يقال عن زخم الأغاني الحلوة كلها، وكل أغنية على حدة لها مذاق خاص ليس فقط من عدد المطربين، بل مذاق خاص لنفس المطرب ونفس الأغنية، وهو يغنيها في حفلات مختلفة وأماكن مختلفة، بل في بلدان مختلفة. وما نقوله على الأغنية نقوله على المقطوعات الموسيقية الناجحة، بل وعلى الموسيقى التصويرية الناجحة. فمن منا لم يعجب بالموسيقى التصويرية لفيلم الويسترن الشهير (الطيب والشرس والقبيح؟)، ومن هواه كم أعجبوا بهذه المقطوعة التصويرية وهى تعزف سيمفونيا بواسطة أكثر من أوركسترا؟ ونفس الشيء على الموسيقى التصويرية لفيلم العراب “The God father” وغيرهما.
ولكن هل كلامي ينحصر في الأغنيات فقط؟ قطعا لا، بل ما يقال عن الأغنية ينسحب ببساطة وبحق على الفنون عموما السمعية والبصرية، وأيضا فن الحكي، فكم من مبدع يفتقد القدرة على الكتابة الإبداعية التي تحسب مع الأعالي، لكنه في الحكي فارس لا يشق له كلام، وأقول وقولي الآتي ليس (إفتكاسة) والفنون الشمَية.. فالعطر فن. تركيب تنويعات العطور فن.. هل قرأتم الرواية الغريبة الرائعة (العطر؟)، هى لأديب رائع اسمه (باتريك زوسكيند)، ومن الرواية تم انتاج فيلم رائع أيضا عل من لم يقرأ الرواية يشاهد هذا الفيلم.. الفيلم أساسه الروائح، وكيف أنها أساسية.. وبهذه المناسبة كان جداتنا النوبيات قديما عندما يأملون اختفاء أحدهم، يدعون عليه (ربنا يخفي رائحتك) فكل إنسان رائحة خاصة به.. أي بصمة رائحة!
ثم الفنون التذوقية!.. نعم فتنويعات الطعام فن.. كلها فنون تتكامل، ولأدلل على ما أقول: أنظر كيف يأكل المتحضر متذوق الفنون، وكيف يأكل البشع عديم التذوق؟ قارن ليس بالفخامة ولا بالشوكة والسكين فقط، بل لتشاهد فلاحا بسيطا يعشق الغناء سواء عزفا أو غناء أو سماعا، شاهده كيف يأكل ويشرب، وشاهد جاره الفلاح العازف عن الفنون؟.. إنه نفس المكان، نفس الوضع الاقتصادي، سترى نفس الطعام، لكن ليس نفس الآكل، هذا يتذوق الطعام وهذا (يزلطه)، أليس كذلك؟.. أنظر للمبدع الحق وللمتذوق عموما، كيف يعامل الناس.. أنظر كيف يتناغم مع أمه وزوجه وأخته وابنته، ولا داعي للنظر للآخر الرافض للفنون فسيفزعك.
كلمات أغنية (يا مسافر وحدك) بسيطة جدا:
يا مسافر وحدك وفايتني ليه تبعد عني وتشغلني
ودعني من غير ما تسلم وكفاية قلبي أنا مسلم.. عينيه دموعها بتتكلم:
يا مسافر وحدك وفايتني.
على نار الشوق أنا حاستني
واصبر قلبي واتمنى على بال ما تجيني واتهنى
طمعني بقربك واوعدني .. إلخ
ربما لو نشرت تلك الكلمات كقصيدة فلن تجد اهتماما، لكنها أغنية ناجحة.. أغنية في تلابيبها ما يقال عنه السحر الفني!، اقرأ معي وانت تتخيل أنك تسمع هذه الشطرة (يا مسافر وحدك وفايتني) وأيضا (ودعني من غير ما تسلم)، وغيرها لكن أقصد أن بالأغنية شجنا ملحوظا.. شجن سحري، سؤال: كيف يتواجد سحر فني في كلمات إن قرأناها وحدها ربما لن نشعر بسحر ولا (دياولو؟)، لأن سحر الفن مستحيل أن تحدده. مستحيل أن ترصده.. سحر الفنون يُحس به فقط.. ستشعر بهذا السحر وتتشرب به وأنت مستغرق في قراءة عمل أدبي أو في مشاهدة فيلم، أو تراقب لوحة فنية. بل حين تشاهد مباراة رياضية عالية المستوى.
من شروط كتابة الأغنية المبدعة، انها تعطي الفرصة للملحن أن يبدع، ويليه المطرب ليتفنن في الإلقاء ليزيد الإبداع إبداعا.. وعليه نستمع نحن لأغنية بديعة تعيش معنا طويلا، وتكون رفيقا شعوريا معنا في أوقات ما.. وقرأت رأيا للصديق الأستاذ (سعد شعراوي) للاستاذ عبد الوهاب وعمنا حسين السيد حكاية..كان يقطع الشعر عروضيا لتتناسب مع وقفات ونَفَس الأستاذ، وكذلك أكثر من استخدام حروف اللين، لمساعدة الاستاذ على تطويل مسافة النفس والكلمة دون إجهاد.
ربنا يبارك في حضرتك يا خال و دمت حضرتك مبدع…..و تشرفت بمرورك الكريم علي رأي متواضع مثلي….. و الحقيقة أن الأغنية بها من الإبداع لحنا من الاستاذ عبد الوهاب و ما أحاط لحن الأغنية من جدل كذلك الكلمات المنحوتة من لغتنا العربية المصرية الخاصة بنا و مشاعر الصدق ما جعل الأغنية ذات أثر واسع و باقي إلي الآن رغم مرور السنين…. و الحقيقة أن الأغنية بها جانب نفسي خفي حيث تعبر عن رحلة العمر و تقلباته بين اليأس و الرجاء بين بقاء قيمة الحب بما يمثله من قيمة و الفقد مع تغير الأحوال و الفرقة و البعاد …. أما تقطيع المشاهد في الفيلم من المخرج الرائع محمد كريم و مهندس الإضاءة و كذلك المنتاج فهو أمر يدرس فقد نسج كل ذلك تحفة فنية تحسها و نشعر بها مع قبض القلب و خوف الطريق بعد إنتهاء الأغنية و هو ما طار بالأغنية إلي مستوي آخر من الأحاسيس الإنسانية قلما توجد في غيرها….و أكيد أكيد كل ذلك يحتاج إلي مزيد من الكتابة من أنامل تنحت الإبداع و بحاثة عن الجمال و عيون مخرج علي الورق مثل حضرتك…..و إن شاء الله أنت لها و لغيرها من تراثنا الجميل…..دمت بكل خير و تحياتي لحضرتك…..