بقلم: بهاء الدين يوسف
مثل صدمة السقوط في مغطس مليء بالماء البارد في مساء يوم شتوي قارس البرودة، لاحظت مصدوما أن الأغاني الوطنية التي كانت سمة مميزة في مصر في التاريخ المعاصر على الأقل، لم تعد موجودة تقريبا في حياتنا، ثم كانت الصدمة أكثر عنفا حينما علمت من صديق أن هناك عشرات الأغاني الوطنية تنتج سنويا وربما شهريا بمعرفة جهات معينة وتذاع في القنوات المختلفة كما في محطات الراديو.
مصيبة تلك الأغاني الوطنية (السرية) إذا جاز التعبير إن وقعها على الناس اسوأ بكثير من عدم وجودها، إذ يمكن في الحالة الثانية التفكير في عشرات الأسباب والمبررات لاختفاء الأغنية الوطنية من حياة المصريين في السنوات الأخيرة، لكن أن تكون هناك عشرات وربما مئات الأغاني التي تنتج وتذاع ثم تدخل في غيبوبة النسيان دون أن يشعر بها أحد في مراحلها الثلاثة، فهذا أمر يمكنني أن أصفه بالمفجع دون أن يؤنبني ضميري على استخدام الوصف المبالغ فيه.
لماذا مفجع؟! لأن عدم اهتمام المصريين بتلك الأغاني الوطنية له دلالات مجتمعية وإنسانية بالغة الخطورة ينبغي على الجهات المعنية دراستها والاهتمام بإيجاد علاجات ناجعة لها، منها مثلا انخفاض الشعور الوطني العام لدى قطاعات واسعة من الشعب، أو أن أعداد غير قليلة من الشباب الذي يعد المستهلك الأول للغناء والموسيقى في المجتمعات المختلفة بشكل عام لم يعد يشعر بنفس درجة الانتماء للوطن التي كان يشعر بها الشباب في أجيال سابقة، أو أنه لا يوجد مشروعات وطنية يجتمع الناس عليها مثلما كان الحال في أزمنة سابقة وأحداث وحدت الشعب المصري مثل بناء السد وتأميم القناة وحرب أكتوبر واستعادة سيناء بصرف النظر عن تقييم كل شخص منا لها.
لكنني أميل (وأتمنى أن أكون محقا) إلى احتمال رابع وهو أن المشكلة في جودة تلك الأغاني بداية من الكلمات مرورا باللحن وصولا الى الغناء، وهو يبدو بالنسبة لي أقل الاحتمالات ضررا لأكثر من سبب منها أن علاجه أقل تعقيدا بكثير من الاحتمالات الثلاثة الأخرى، لكن حتى مع ترجيح هذا الاحتمال تتبقى أسئلة بلا إجابات شافية عن الجهات التي تقوم بإنتاج الأغاني الوطنية السرية، وما هو هدفها من تقديم عشرات أو مئات الأغنيات التي لا تترك أثرا في سامعيها؟! فهل الهدف هو الكم فقط وإثبات الحالة بأنها تقوم بعملها دون النظر لجودة المنتج وتأثيره؟!
إذا كان هذا هو الأمر فهل توقف أحد من المسؤولين أمامه من باب أن ما يحدث نوع من إهدار المال العام في منتجات لا يستفيد منها أحد؟! أم أن المشكلة في أن مصر باتت عقيمة عن تقديم مبدعين جدد في الكتابة والتلحين والغناء، وهى التي ظلت لعقود طويلة واحة الثقافة والفنون وكل مفردات القوة الناعمة في المنطقة.