بقلم: محمود حسونة
تخيلنا أن الكوارث التي نتعرض لها جميعنا مثل وباء كورونا، أو التي يتعرض لها بعضنا مثل زلزال تركيا وسوريا، بمثابة فرصة لتأكيد إنسانيتنا، ولكنها للأسف جاءت لتفضح انعدام إنسانية بعضنا من أصحاب الضمائر الميتة الذين فقدوا الأحاسيس واغتالوا المشاعر واستباحوا المحرمات.
كشف الزلزال مستور النفس البشرية لدى فئات تعيش بيننا وهى تنتظر مصائبنا لتستفيد منها وتتاجر بها، وهذا لا ينفي أن بيننا أناس يضحون بالغالي والنفيس لأجل الآخرين، لا يتأخرون عن نجدة مستغيث ومساعدة محتاج وتضميد جراح مصاب وكفالة يتيم، بيننا هؤلاء وأولئك، والفرق بينهم قد يكون بمساحة محيط، كل يقف على إحدى ضفتيه مشكلاً لنفسه عالمه حتى لو كان يعيش بين الناس، فالمتاجرون بهموم وأوجاع الناس ينتظرون الكوارث والمصائب لاستغلالها لصالحهم ومضاعفة ثرواتهم وابتزاز من يستطيعون خداعه، والمحسنون من أصحاب الأيادي البيضاء ينتظرون الكوارث والمصائب لينتفضوا منقذين ومساعدين وداعمين ومعالجين و مطبطبين.
هؤلاء بشر وهؤلاء بشر، يحملون نفس الصفات الشكلية ولكنهم يختلفون جملة وتفصيلاً في الجوهر، فتجار الخراب والدمار والكوارث نفوسهم خربة، أنانيون، جشعون، ومنهم تجار الحروب الذين حققوا ثروات والدول التي ينتمون إليها تسقط أمام أعينهم، وتجار الفيروسات والأوبئة والكوارث الذين لا يتركون مصيبة تصيب البشرية إلا ويتاجرون بها سواء لتحقيق مجد مادي أو شهرة مزيفة، والزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، كشف عن الكثيرين من تجار الكوارث، ولعل أبشعهم هؤلاء الذين استغلوا انشغال الأجهزة الأمنية في أعمال الانقاذ وقاموا بسرقة ونهب المتاجر الكبرى والصغرى في أكثر من مكان في البلدين المنكوبين، وبدلاً من أن تقل معدلات الجريمة في مثل هذا الوقت ازدادت، وهو الأمر الذي ليس بجديد فقد سبق وشاهدنا أعمال السطو والنهب للقصور الرئاسية العراقية بعد سقوط بغداد في يد المحتل الامريكي عام 2003، كما تابعنا مشاهد النهب والسرقة في أكثر من عاصمة عربية خلال الخريف العربي، ناهيك عن مشاهد العنف والقتل على أسس مناطقية وطائفية.
ما لا يقل بشاعة هو ما رددته بعض وسائل الإعلام (لو كان صحيحاً) عن سطو بعض العصابات على شاحنات تنقل مساعدات للمناطق المنكوبة، أو سطو بعض المسؤولين والمتنفذين على المساعدات وطرحها للبيع في محال عامة، واستيلاء بعض العاملين في مؤسسات تجمع تبرعات على بعض التبرعات، وكلها سلوكيات تتنافى مع القيم الإنسانية.
هذه سلوكيات ترتكبها على مر العصور ميليشيات وعصابات ومرتزقة ومسؤولون فاسدون، ولكن أن يدخل بعض الإعلاميين والفنانين على خط استغلال الكوارث لتحقيق مجد وهمي، فهو الأمر الذي لم نسمع عن سوابق مشابهة له، وهو ما يساوي بين هؤلاء الفنانين والإعلاميين وتلك العصابات وأولئك المجرمين.
في الوقت الذي يتابع فيه الرأي العام العالمي جهود رجال الإنقاذ، لإنقاذ من يستطيعون من أطفال وشباب وكبار مازالوا عالقين، ولانتشال آلاف الجثث من تحت الأنقاض، أو يتابع المواقف السياسية الإنسانية للعديد من الحكومات، والمواقف السياسية العنصرية لحكومات تضامنت مع الأتراك إنسانياً وتجاهلت السوريين، انشغل بعض تجار الإعلام باستضافة منجمين دجالين ومشعوذين ليتحدثوا عن (توقعهم) للزلزال قبل وقوعه، ووصلت وقاحة البعض منهم لاختلاق شائعات ونسبها إلى عالم هولندي لإثارة الرعب في نفوس المصريين واللبنانيين من زلزال مدمر يتوقع أن يضرب مصر ولبنان، وهو الأمر الذي تم نفيه.
المؤكد علمياً والمحسوم من قبل علماء الرصد والزلازل والجيولوجيا أن الزلازل لا يمكن توقعها، وأن أي كلام في هذا الصدد هو كلام فارغ ويستخدم فقط لإثارة الخوف والهلع عند الناس، ورغم ذلك يصر بعض الإعلاميين على تكريس التنجيم والإيحاء بأن المنجمين بشر غير البشر، متجاوزين ذلك على كل ما جاءت به الديانات السماوية وما أكده العلم. وإذا كان هؤلاء الإعلاميين لديهم من الجهل ما يمنعهم من استيعاب عواقب ما يفعلون، من نشر للخوف والهلع بين الناس، فإنهم لا يستحقون لا الجلوس أمام الكاميرا ولا الحديث أمام الميكروفون ولا تحمل مسؤولية كتابة ما يطير النوم من عيون الناس، وما يعد عبثاً بقوانين الكون، وذلك على أمل تحقيق نجاح وهمي أو إثارة جدل عقيم بين الناس.
وللفنانين في الزلزال أمر لا يختلف كثيراً، فبعضهم عاش الكارثة بتفاصيلها، تضامن مع المنكوبين من القلب، حزن وعبر عن حزنه بالتغريد والتصريح والتبرع، وبعضهم لم يتوقف عند ذلك بل شارك في حملات لجمع التبرعات، وفي المقابل تعامل مع الأمر وكأنه لا يعنيه، وهو تجاهل أهون من هؤلاء الذين حاولوا استغلال الكارثة والاتجار بها، بادعاء التبرع بأرقام مليونية، وهو ما أثار فنانين آخرين فشككوا علانية بهذه التبرعات وهذه الأرقام متهمين زملائهم بالنفاق واستغلال الأزمات والمصائب التي يمر بها الضحايا، لتحقيق مكاسب وإنجازات وهمية، مطالبين بالكشف عن الجهات التي تبرعوا لها ودليل التبرع، لكن لم يصدر عن هؤلاء أي رد، ما يعني أن الأمر هنا لا يختلف عن استغلال بعض اللصوص والفاسدين للكارثة وسرقة المتاجر والاستيلاء على سيارات المساعدات الإنسانية.
الأمر مختلف تماماً على الجانب التركي، فالفنانون هرولوا إلى المناطق المتضررة لمشاركة المنكوبين مصابهم الكبير، ويكفي أن حملة (تركيا قلب واحد) نجحت في جمع أكثر من 6 مليارات دولار في غضون سبع ساعات لصالح المتضررين وهي حملة قامت ببث فعالياتها 213 محطة تلفزيونية و562 إذاعة داخل وخارج تركيا، مساء الأربعاء الماضي، وقام بتقديمها وتحفيز الناس على المشاركة فيها نجوم ومشاهير، لتلقى دعماً واسعاً من رجال أعمال وشركات وساسة ورياضيين وممثلين ومطربين، ولعل في ذلك درس لمن يريد أن يعي ضرورة أن يتوحد أبناء الأمة الواحدة في أوقات الكوارث ويشارك في قيادة توحدهم المشاهير.
للكوارث تجارها، الذين ينتمون لفئات اجتماعية مختلفة، ولكنهم في هذه اللحظة يتساوون من دون أي فرق، فالمستغل اللص أو البلطجي أو الميليشيوي يتساوى مع المستغل الإعلامي والفنان والسياسي، فالكل في الفساد سواء.
mahmoudhassouna2020@gmail.com