بقلم: ماجد كامل
كما أحدثت بداياته صخبا كبيرا.. جاء نبأ رحيله مدويا فى كل أوساط السينما العالمية، فرغم وفاته منذ عدة أشهر لايزال رحيل الأب الروحى للموجة السينمائية الجديدة (جان لوك جودار – Jean-Luc Godard) عن عمر يناهز 91 عاما يشغل دوائر السينما العالمية، فجودار هو من حطم بلا هوادة كل قواعد السينما المتعارف عليها منذ بدايتها ليطرح نسقا سينمائيا جديدا امتد بعد ذلك ليصير تيارا جارفا فى كل أنحاء العالم.
فالسينما الجديدة كما دشنها (جودار) ومعاصروه (شابرول وتريفور) تدعو إلى التفكير العميق فى كل مايرتبط بمشكلات الإنسان المعاصر ونسف الخط السردي التقليدي وتحرير المشاهد من الحبكة المعتادة وجعله يفكر ويحلق معه فى أحداث مفتوحة على نهايات غير متوقعه تدعوه للتأمل الشديد ليحصد (جودار) عبر مسيرته الممتده عبر نحو نصف قرن أهم الجوائز العالمية مابين (الأوسكار، وسعفة كان الذهبيه و دب برلين الذهبى والفضى).
منقطع الأنفاس
وقد فاجأ (جودار) العالم مع أول أفلامه (منقطع الأنفاس – Breathtaking movie) أو (حتى آخر نفس) بأسلوبه الفريد فى السينما، وهو نفس الفيلم الذي كان أيضا ومضة الميلاد الحقيقى للنجم الفرنسى الأشهر (جان بول بلموندو) فى العام 1961، حيث جاء أسلوبه السينمائي الفريد فى السرد السينمائي مستعينا بأساليب متطوره فى التصوير والمونتاج وتوجيه الفنانين المشاركين بصورة مذهلة، ورغم مايبدأ به الفيلم من جريمة ومطاردات.
إلا أن الحبكة تتطور لتتبدل آليات السرد السينمائي التى تعود عليها المشاهد عبر تقنيات رائعة وحديثة من الحوار والانتقال السريع من صوت لآخر، وكذلك تميز الموسيقى التصويرية واستغلالها بشكل غير مألوف.
يركز (جودار) فى عمله هذا وفى بقيه أعماله التالية على النسج الفائق بين علاقات الشخصيات الدرامية لأفلامه وكيف ترى هذه الشخصيات أنفسها والعالم .
ويعبر (جودار) بقوة عن عالم مابعد الحرب العالمية الثانية والتحولات الأيدلوجيه الهادرة التى هزت أوساط الشباب فى هذه الفترة، فبعد أن قدمت هذه الحرب على مذبحها أكثر من 50 مليون شخص قتلوا خلالها.. تولدت معها رؤي وفلسفات وأفكار جديدة تتجه بعمق الانسان المعاصر وتشرح بدقه معاناته وهمومه وآلامه.
الاحتقار
ويأتى العام 1963 ليفاجأ (جودار) العالم بتحفته (الاحتقار – contempt)، والذي لعبت بطولته (بريجيت باردو) إلى جانب (ميشيل بيكولى وجاك بالانس).. وهنا نحن أمام إحدى قصص الكاتب الإيطالى (ألبرتو مورافيا) التى استلهم منها (جودار) الفكرة الرئيسيه للفيلم، بينما نسج سيناريو وتفاصيل مختلفه كثيرا جعلت من العمل أحد أهم روائعه.. فنحن فى هذا الفيلم أمام فيلم تجري أحداثه فى يومين فقط، الأول فى روما واليوم الثانى فى كابري.. نحن هنا أمام علاقه مضطربه بين كاتب مسرحى والذي يقوم بشخصيته (ميشيل بيكولى) وزوجته فائقه الجمال والتى تجسد شخصيتها (بريجيت باردو)، ويضطر الكاتب الذي يشعر باحتقار زوجته له إلى أن يتحول لكاتب سيناريو ليكسب مالا يمكنه من شراء منزل جميل لزوجته وسداد أقساط هذا المنزل.. إلى أن تلتقى الزوجه منتجا أمريكيا ويجسده نجم هوليود (جاك بالانس)، وتنجذب إليه وتنتهي العلاقه بمصرعهما فى حادث سيارة.. وقد استخدم (جودار) فى هذا الفيلم تقنيات سينمائية متطورة فى مشاهده الرائعه وسيل من الرموز والأفكار التى تغلف العمل بأكمله.
مذكر.. مؤنث
وفى العام 1966 يطلق (جودار) عمله المهم (مذكر.. مؤنث – male Female)، والذي يبدأ بمشهد افتتاحى طويل يتحاور فيه شاب وفتاة حيث يتعرف (بول) والذي يجسده الفنان (جان بيير ليود) على الفتاة (مادلين)، والتى تجسدها الفنانه (شانتال جويا) فى حوار عفوي، وهما شابان فى مقتبل حياتهما وذلك فى مقهى باريسي وسط جو ممطر بشدة فى الخارج يعكس المناخ السياسي العاصف الذي كانت تمر به أوساط الشباب فى فرنسا وأوروبا فى ذلك الوقت.. وتتطور الشخصيات ليصبح الشاب من عشاق الموسيقار (باخ) والفتاه مغنية للبوب، ثم تتسع الدائره لحوارات عميقه بين الشباب الباريسي من مختلف الأطياف.. ويعد الفيلم أول الأفلام السياسيه لجودار، والتى سجل من خلالها آرائه عن أفكار الشباب فى تلك الحقبة.
سيمفونية سينمائية
وفى فيلمه الرائع (اشتراكية) والذي عرض عام 2010 يصل (جودار) بآفاق إبداعه إلى ذروتها، حيث يتحاور أبطال الفيلم على سفينة بلغات عديدة، حيث يرمز كل منهم إلى حضارة من الحضارات الإنسانية، ويزورون خلال أحداث الفيلم دولا عديدة تمثل هذه الحضارات كـ (مصر واليونان وبرشلونة)، وذلك عبر تقسيم الأحداث إلى ثلاثة حركات موسيقية ليقدم الفيلم كسيمفونيه سينمائية.
وتستمر إبداعات (جودار) عبر عشرات الأفلام القصيرة و 27 فيلما طويلا منها: (بيبيرو المجنون، حمله البنادق، امرأة متزوجة، الجندي الصغير)، وفيلمه (ألفاڤيل – Alphaville) وهو من الخيال العلمى، وغيرها من الأعمال المهمه التى صار كل منها مثارا لجدل عميق وواسع ووجبة دسمه لعشاق السينما فى كل أنحاء العالم.
ولاتزال أعمال (جودار) حتى اللحظه تفتح دوائر واسعه من النقاش حول قضايا الإنسان ومعاناة الإنسانية، وتولد آفاق من الأفكار والأسئلة التى لاتنتهي.