كتب : أحمد السماحي
أحد مشاكل الدراما المصرية والعربية في الوقت الراهن هو الإحساس بالاعتياد، وبأننا لا نرى شيئا جديدا مهما كانت براعة المخرج، وكاتب السيناريو، والممثلين، فمعظم الأعمال الدرامية العربية تشبه بعضها، وما يفوتك مشاهدته في الدراما المصرية، تجده في الدراما السورية، وما لا تشاهده في الدراما المصرية والسورية تجده في الدراما اللبنانية أو الخليجية، موضوعات واحدة يختلف فقط أسماء صناعها.
وكلها تتحدث عن الفساد، ورجال الأعمال السيئيين، أومجموعة من المنحرفيين الذين يهربون المخدرات أوالآثار، أو تجار الأسلحة، أو الإتجار بالبشر، وغيرها من الموضوعات المتكررة، وعندما انتبهت الدراما لخطورة إنشغال الشباب بوسائل التكنولوجيا الحديثة وجدنا عشرات من الأعمال الدرامية التى تناقش هذه الظاهرة.
ونسى صناع الدراما في ظل هذه الزحمة، الإنسان البسيط، الباحث عن حلمه، والمهموم بتفاصيل الحياة اليومية الصعبة لهذا سعدت جدا بمشاهدة مسلسل (براندو الشرق)، تأليف وسيناريو وحوار وبطولة النجم المبدع الموهوب جدا (جورج خباز) الذي يعود للدراما بعد غياب قرابة العشر سنوات، وإخراج أمين درّة، وكنت أعتبر مشاهدتي للعمل مكافأتي الليلية بعد يوم عمل حافل مليئ بالصعوبات المرهقة في تفاصيل جادة حينا وتافه أحيانا!.
العمل من الأعمال الدرامية القليلة التى تتكون من عشر حلقات، والتى تعزف على أوتار النفس دون نشاز، فتنتقل من وتر إلى وتر بمهارة العازف المتمرس، وتسلمك بسلاسة ورقة من حالة إلى حالة، دون أن تطغى واحدة على الأخرى فتشبعك دون إرهاق أو تبلد أو تخمة وكأنها قيدتنا بخيوط سحرية خفية.
القصة
تدور أحداث (براندو الشرق) في إطار مزيج من الدراما، والكوميديا، والفانتازيا، والرومانسية، والدراما النفسية، حول (يوسف تامر) الذي درس الإخراج، ويحاول إثبات نفسه في عالم الفن، ويحلم ببطولة وإخراج أول فيلم سينمائي له من وحي أفكاره بعنوان (الرصاصة الصامتة)، وفي رحلة مضنية بين شركات الإنتاج تطلب منه كل شركة نوع معين من الكتابة حتى يخرج الفيلم للنور، بعضهم يريد الفيلم كوميديا، وآخر يريده أكشن وإثارة، وثالث يريده مليئا بالعواطف الملتهبة، وآخر يريده يحمل رسالة.
وطوال رحلة البحث عن منتج يكذب (يوسف تامر) كذب أخضر برئ، ويدعي أن كل ما طُلب منه موجود بالفعل في السيناريو، ويحاول أن يضيف ما يطلب منه، وليس هذا فقط بل أحينا يلجأ إلى النصب ويزعم لبعض من يحاول مساعدته أن له، أو لها دور في الفيلم، ويمضي طيلة الوقت باحثاً عن منتج يقتنع بتمويل الفيلم، ويتخيل نفسه بطلاً للأحداث، وأثناء رحلة البحث عن تحقيق حلمه، نجده يعمل أيضا موظفا في شركة لتأجير معدات الأفلام، ويرتبط بعلاقة صداقة عاطفية مع زميلته (سلوى سليمان) التي تقع في حبه، وتشاركه الحلم نفسه وعينها على بطولة فيلم (الرصاصة الصامتة) الذي تحاول كل الشركات تغيير اسمه!.
بعد رحلة طويلة، يشترط عليه أحد المنتجين لتمويل فيلمه أن يكون أحد أبطاله النجم (خالد صلاح) الملقب بـ (براندو الشرق)، وهنا يبدأ يوسف بالتنازل عن حلم البطولة، والبحث عن (براندو الشرق) وفي رحلة البحث المليئة بالدموع والبسمات، يرشده البعض عن (لما/ إبنة براندو) التى تعيش بمفردها بعيدا عنه، وعلاقتهما مليئة بالفتور، فيتقرب منها لعلها تساعده، دون أن يفصح لها عن سر اقترابه منها، وبمرور الوقت يقع في حبها، وتتلاعب في قلبه أهواء رومانسية مبهمة تقوده رغما عنه إلى تصرفات مطلقة لا عودة منها، وتدفعه إلى عاطفة صافية عنيفة.
وعقب ليلة حب ناعمة مع (لما/ ابنة براندو) فجرت في جسده كل الينابيع الكامنة، يكتشف (يوسف) نفسه، لكن بعدها تكتشف (لما) حقيقة قربه منها، فتبتعد عنه، ويخسر حبه الحقيقي الذي صادفه دون أن يدري في رحلة البحث التى نجح في نهايتها بالعمل مع (براندو الشرق) وتحقيق حلمه.
السيناريو
المسلسل مليئ بتفاصيل أخرى مهمة، كتبها بتمكن شديد واحترافية عالية وتكثيف وتركيز الموهوب بقوة (جورج خباز) الذي استطاع ككاتب سيناريو أن يقدم مجموعة من الشخصيات الواقعية التى نقابلها يوميا في الشارع والمواصلات العامة، وأماكن عملنا، البعيدة عن الابتذال أو التصنع القادرة على التأثير رغم قلة مشاهد بعضهم، مثل الأب الطيب الذي يعيش في عزلة إجبارية ويحاول إبعاد ابنه عن طريق الفن، لكن عندما يجد لديه الإصرار يساعده في نهاية الحلقات، ومجموعة الأصدقاء الذين يساعدونه في رحلة البحث عن منتج، وشخصية (شقيقته) التى رحلت ويستدعيها عندما تقابله مشكلة، لتساعده في حلها، وشخصية حارس فيلا (براندو الشرق) ومديرة الفيلا، كل هذه الشخصيات فضلا عن بعض ضيوف الشرف الذين يظهرون في الحلقات مثل (عادل كرم، وعبدالمنعم عمايري) كتبها بصدق (خباز).
الإخراج
أمين درة مخرج له أسلوب مميز يعرف كيف يقص موضوع للمشاهدين؟ وكيف يرسم جوا؟ وكيف يحرك أبطالا؟ من خلال تفاصيل كثيرة مؤثرة، كما أنه صاحب رؤية ثاقبة، والأهم يعرف ما يريد من الممثلين بالضبط، ولا يرهقهم في تفاصيل كثيرة متعبة، وبعد أن يقوموا بها يحذفها في المونتاج، واستطاع هنا أن يقدم مجموعة من الفنانيين رغم قلة مشوارهم الفني لكنهم بين يدي (درة) شاهدناهم وكأنهم يحملون تاريخا طويلا من التجارب التمثيلية بفضل أدائهم الجيد.
جورج خباز
صال وجال (جورج خباز) في أداء دور (يوسف) بكل التناقضات التى تحملها هذه الشخصية، من كذب، وصدق، وحيرة، ومجاملة، وحب، وإصرار، ومرض، وإنسانية، كل هذه التناقضات جسدها (خباز) بطاقته الفنية المتفجرة وإحساسه العفوي الصادق، وغموض شخصيته، وذكاء نظرته، وكل الإمكانات الباهرة التى تشع منه، وقدم مشاهد درامية لا تنسى، ففي كل حلقة تقريبا كان لديه مشهد أو أكثر (ماستر سين)، مثل مشهد الحلم أو التخيل في الحلقة الأولى الذي يحلم بفوزه بجائزة في (مهرجان كان)، ومشهد المواجهة بينه وبين الأب، وإصراره على مواصلة حلمه، والمشهد بينه وبين أصدقائه عندما اكتشف ضحكهم عليه، ومشاهد كثيرة مع (أمل عرفه، وميا سعيد).
وتكمن موهوبة (جورج خباز) الخطيرة في تعبيرات وجهه المطاطية اللامتنامية، وفي حركاته الصغيرة الجزئية، التى تبدو وكأنها تنبعث من كيانه كله، عندما يهتز لخبر، أو يعبر عن رد فعل أو رأي، هزة رأس وكتف أحيانا تكفي لتقول أشياء كثيرة، رعشة هدب أو حركة شفة متميزة تعبر عما يعبر عنه كثيرون بحوار طويل أو معاناة واضحة، نضيف إلى ذلك حضوره المتميز الثابت التأثير الذي أثبته على خشبة المسرح والذي استطاع أن ينقله إلى الدراما التليفزيونية من غير عناء والذي يتلخص بكهرباء من نوع خاص تحيطه بإشعاع مؤثر يجعل البصر لا يحيد عنه حتى عندما يتوقف عن الحركة أو الكلام.
أمل عرفة
مسكونة بالموهبة وتجمع بعبقرية شديدة بين الأداء التراجيدي القوي، والأداء الكوميدي الراقي الذي يعتمد على كوميديا الموقف، قدمت دور (سلوى سليمان) الفتاة التى تعيش في الحاضر لكن روحها وقلبها مع نجوم الفن في الأربعينات والخمسينات، وطول الوقت تعتقد أنها بطلة أحد الأفلام المصرية القديمة وأن (أحمد) سيأتي على حصان أبيض وينتشلها مما هى فيه، والأغرب والمثير أنها أحيانا تخلط الماضي بالحاضر وتعاتب (البغل) حبيبها وتقول له (ليه كده يا أحمد)!
شخصية (سلوى) تحمل الكثير من البراءة والسذاجة وقدمتها (أمل عرفه) بكثير من الصدق، والعذوبة الشديدة والفهم والوعي، فضلا عن الاقتصاد في الحركة والتعبير، مما جعلها بالغة التأثير شديدة الوقع على نفوسنا، والأهم أن ملامحها عكست الاكتفاء بكافة معانيه، الاكتفاء المادي والجسدي والعاطفي بشكل مذهل.
كميل سلامه
قدم لنا نموذجا رائعا لما يمكن أن يقدمه ممثل قدير، وكيف يستطيع أن يغوص في الشخصية التى يجسدها ليقدم لنا اللؤلؤ بين كفيه، لقد كان (كميل سلامه) – الذي جسد دور الأب الخائف على ابنه – في المشاهد التى عبر فيها عن قلقه وحيرته على مستقبل ابنه وعجزه عن مواجهة الواقع القاسي ممثلا وشاعرا وفيلسوفا معا.
جهاد سعد
رغم قلة مشاهده إلا أنه حاول بكل طاقته المتفجرة وحيويته التى لا تجارى أن يعطي أبعادا نفسية للدور، بروعة ودقة التفاصيل التى قدمها في دور النجم السينمائي (خالد صلاح) أو (براندو الشرق)، وترك بصمته الواضحة على الدور.
ميا سعيد
جسدت دور (لما) الفنانة التشكيلية وإبنة (براندو الشرق) بشفافية عالية، وكانت جريئة حتى الصراخ، ملتهبة، متكبرة، صادقة، جسور، وقد عبرت عن هذه العواطف كلها بمهارة وعفوية.
باقي النجوم
لعب باقي النجوم الموجودين في المسلسل مثل (زينة مكي، طلال الجردي، إيلي متري، فؤاد يمين، لورا خباز) أدوارهم بعفوية شديدة، واستطاعوا أن يقدموا أداء عذبا خاصة (لورا خباز) التى جسدت دور شقيقة يوسف التى يستحضرها في كل أزمة تمر به بشفافية عالية وكانت بالفعل روحا وطائرا حزينا جميلا.