كتب: محمد حبوشة
في تحول واضح لصالح الرواية الفلسطينية، تحاول العديد من وسائل التواصل الاجتماعي والشركات السينمائية استدراك أخطائها بحق الفلسطينيين وتزييف الحقائق بإبراز الرواية الصهيونية الكاذبة على حساب الفلسطينيين، ومثال ذلك ما أعلنته إدارة شركة (فيسبوك) بخصوص تعيين (هيئة خارجية للتحقيق في اتهامات بمحاربتها المحتوى والرواية الفلسطينية)، وقال بيان صدر عن الشركة إنها (ستعين هيئة خارجية لتحديد ما إذا كانت الشركة قد حجبت المحتوى الفلسطيني بعد الموافقة على توصية من مجلس الرقابة، وهو هيئة داخلية مستقلة، لتعيين شركة خارجية للتحقيق في اتهامات قمع المحتوى الفلسطيني).
وربما جاء بيان (نتفليكس) بعما ظهر انحيازيها الواضح للرواية الإسرائيلة التي تظهر الفلسطينيين على أنهم إرهابيون يعملون على تهديد المصالح الصهيونية الإسرائيلية، فعلى الرغم من أن منصة (نتفليكس) كانت تؤكد دائما أنها منصة ترفيهية، ولا علاقة لها بأي أجندة سياسية، وتنفي ذلك مرارا وتكرارا، فإن المتابع لأعمال نتفليكس، خاصة ما يتعلق بالأعمال الإسرائيلية، يلاحظ وبكل وضوح أنها تعرض أفلاما وسلاسل درامية ووثائقية تنحاز جميعها للرواية الإسرائيلية، وتدخل في إطار (البروباجندا)، وبمجرد أن تقوم بالبحث عن كلمة (إسرائيل) في نتفليكس ستجد أمامك وابلا من جميع الأعمال، سواء الأفلام، أو المسلسلات، أو الوثائقيات، وجميعها متاحة في الدول العربية، ومترجمة للعديد من اللغات، ومن ضمنها بالطبع اللغة العربية، وفي المقابل لو كتبت كلمة (فلسطين) في بحث نتفليكس؛ فكل الأعمال التي ستظهر لك هى أعمال إسرائيلية!
ومن هنا لابد أن يبدر لك سؤالا جوهريا: هل أصبحت (نتفليكس) بيتا للدعاية الإسرائيلية؟
من خلال تتبعي للمحتوى الإسرائيلي على نتفليكس، وجدت أن الغالبية من هذه الأعمال هي أعمال مسيسة، تمثل رؤية وسردية الكيان الصهيوني، مما حدا بالكاتبة الأمريكية (بيلين فيرناندز) إلى كتابة مقال مطول، نشرته على موقع (ميدل إيست آي) ذكرت فيه أن نتفليكس أصبحت مكانا للدعاية الإسرائيلية، وأن إسرائيل محظوظة بسبب تمكنها من تأسيس وجودها على نتفليكس؛ لترويج سياستها عالميا، والسعي من خلال نتفليكس إلى كسب التعاطف على مستوى الرأي العام العالمي، وفي ذلك العالم العربي!
وتضيف (بيلين فيرناندز) من خلال مشاهدتها لبعض الأعمال الإسرائيلية على (نتفليكس) أن كل هذه الأعمال تدور حول تعظيم الدور الاستخباري الإسرائيلي، وعرض الشخصيات الإسرائيلية كأبطال، وعرض الضحايا من الفلسطينيين كمجرمين وإرهابيين!، وفي المقابل بالنظر إلى الأعمال التي أنتجتها (نتفليكس) عن الفلسطينيين، أو الأعمال التي اشترت حقوق بثها من شركات الإنتاج الإسرائيلية، فإننا سنجد أن جميع هذه الأعمال تدور حول الترويج المباشر لسياسة ورؤية الاحتلال الإسرائيلي، وفرض الرواية أو السردية الإسرائيلية على كل هذه الأعمال، في سعي واضح لطمس ومحو الهوية الفلسطينية، ووصف المجتمع الفلسطيني بالإرهاب وبأشنع الصفات، وتصوير جميع رموز وقادة الشعب الفلسطيني بأنهم بلا أية قيم أو أخلاق، ومجردين من كل صورة إنسانية!
جدير بالذكر أنه في العام 2013 ظهر أول عمل إسرائيلي على منصة نتفلكيس: (مسلسل الرهائن – Hostage، ويحكي هذا المسلسل عن عصابة تقوم بخطف عائلة الطبيبة التي ستجري عملية جراحية لرئيس الوزراء، وتلعب أحداث المسلسل على وتر المشاعر، فمع أحداث الحلقات الـ 15 من المسلسل، تجد مشاعرك أحيانا تتعاطف مع العصابة، وأحيانا تتعاطف مع الجهة الأخرى، ومع الوقت تتغير مشاعرك، ولا تدري مع أي فئة تتعاطف، ورسالة المسلسل الضمنية هى أنك غير قادر على التفريق بين الضحية والجاني!
كذلك الحال مسلسل (فوضى – Fauda) دراما الإرهاب خلف جدار الفن!، فبعد سنتين من مسلسل الرهائن، اشتهر مسلسل (فوضى) في العام 2015، وحقق هذا المسلسل مشاهدات بالملايين، وصدرت له ثلاثة مواسم، مقسمة على 36 حلقة، مدة الحلقة الواحدة 45 دقيقة، ومع تتبع مضمون حلقات المسلسل الـ 36، يتبين أن هذا المسلسل يقوم على تمجيد جرائم الحرب الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وشرعنة الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وتصوير الضابط الإسرائيلي بأنه لا يلجأ للعنف إلا عندما يكون مضطرا!، بينما الفلسطيني يلجأ للعنف في كل وقت وحين، ويكون في قمة سروره وسعادته حين يستخدم العنف!
إضافة إلى ربط المجتمع الفلسطيني بتنظيم (داعش)، من خلال استدعاء مشاهد القتل التي قام بها التنظيم، وربط الفلسطينيين بها! لإظهار أن إسرائيل تواجه نفس الخطر الذي يواجهه الغرب، وبالتالي فهي عندما تقتل الفلسطينيين فإنها تقوم بواجبها في مكافحة الإرهاب، كما يفعل حلفاؤها الغربيون، وبكل فجاجة يظهر المسلسل الفروق بين صورة المجتمع الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني، فالمجتمع الإسرائيلي بحسب المسلسل هو مجتمع طيب وذكي، لا يعرف إلا الأخلاق الفاضلة والنبيلة، لا يعتدي على أحد، هو دائما في موقف الدفاع!، أما المجتمع الفلسطيني فهو مجتمع منعدم الرحمة، متعطش للدماء والقتل، عاشق للجنس والخيانة، متحرر من أي فضيلة إنسانية، يكره اليهود أكثر من النازيين!
وفي إطار تبيض وجه إسرائيل، فاز مسلسل (فوضى) بست جوائز داخل إسرائيل وخارجها، من بينها جائزة أفضل مسلسل درامي في جوائز الأكاديمية الإسرائيلية، واستحوذ المسلسل على (الترند) أكثر من مرة، وتلقى دعما من غالبية قادة أجهزة المخابرات المتقاعدين في إسرائيل، وحضر (إيهود بارك) رئيس الوزراء السابق العرض الافتتاحي للمسلسل، واستضاف الرئيس الإسرائيلي (روبي ريفلين) طاقم المسلسل في لقاء احتفالي كبير، وعبر عن سعادته وامتنانه لطاقم المسلسل.
وتعد النقلة الكبيرة للحضور الإسرائيلي على (نتفليكس) قد أتت في العام 2018، فقد ذكرت جريدة (جيروزاليم بوست) أن محتويات إسرائيلية أُضيفت بصمت وهدوء إلى خدمات (نتفليكس)، ومن بينها أعمال درامية ووثائقية، تشكل ترويجا مباشرا وغير مسبوق للاحتلال الإسرائيلي، كما أكدت الجريدة أن عددا من المسلسلات الإسرائيلية سوف يكون متوفرا على (نتفليكس) خلال الفترة القليلة المقبلة، وهو ما حدث فعلًا!
وعلق الصحفي الإسرائيلي (إيسان شور) حول إنتاجات (نتفليكس) المتزايدة في الفترة الأخيرة قائلًا: وصلت ذراعنا الطويلة إلى هوليود سابقا، والآن (نتفليكس)، لقد تعمقنا في العام 2018، وكأن السينما والتلفزيون الأمريكيين، أصبحا جزءا من مركز تراث المخابرات الإسرائيلية!، و تمثل ذلك من خلال ثلاثة أعمال أُضيفت إلى (نتفليكس) في العام 2018، وتشكل ترويجا مباشرا للسياسة الإسرائيلية:
العمل الأول: المسلسل الوثائقي – Inside the Mossad (داخل الموساد، وهو وثائقي عبارة عن مقابلات ترويجية للموساد مع قادة وعاملين في الجهاز، يتحدثون عن بطولاتهم في تنفيذ عمليات اغتيال قادة ونشطاء المقاومة الفلسطينية، ويبرزونها بشكل تسويقي، مظهرين التفوق الإسرائيلي أمام العشوائية الفلسطينية!، ويغطي الوثائقي قصص عمليات شهيرة، منها: (اغتيال أبو حسن سلامة، والشيخ أحمد ياسين، وعماد مغنية، ومحمد الزواوي)، ويتحدث القتلة بأريحية بالغة حول هذه الإنجازات! ووصف الوثائقي شهداء فلسطين بأبشع وأشنع الصفات الكاذبة، وعرض معلومات مغلوطة من وجهة نظر إسرائيلية متطرفة!
العمل الثاني: مسلسل – When Heroes Fly (عندما يحلق الأبطال)، ويحكي هذا المسلسل عن مجموعة من الجنود الإسرائيليين المقاتلين في حرب 2006، وكيف أن هذه الحرب التي تسببوا فيها دمرتهم نفسيا!، والمسلسل موجه لاستعطاف المشاهدين، ورسالة المسلسل الرئيسية هى أن هذا الجندي الإسرائيلي الذي تراه معتديا، هو إنسان يشعر مثلك، ولديه قيم وأخلاق، وله أم تقلق عليه، وحبيبة مستعد أن يخاطر بحياته من أجلها، وهو أيضا يكتئب ويصاب بالإحباط وربما بالجنون، والهدف من هذا المسلسل هو أنسنة القتلة، وإزالة وصمة الإجرام عنهم!، وفاز المسلسل بالجائزة الأولى في (مهرجان كانسيريز الدولي للمسلسلات) ونال استحسانا وتقييما عاليا.
العمل الثالث: ( فيلم The Angel- (الملاك) ويعد هذا الفيلم من أشهر الأعمال داخل العالم العربي، وقد صرف عليه دعاية كبيرة داخل العالم العربي!، والفيلم يتناول أحد أكثر القضايا غموضا في التاريخ، وهى قصة العميل المصري (أشرف مروان) صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والمستشار الخاص للرئيس أنور السادات.
الفيلم تبنى الرواية الإسرائيلية، وأضاف أن (أشرف مروان) عميل مزدوج، وشاب يسعى إلى السلام – بحسب المنظور الإسرائيلي للسلام – كي تخدم هذه الإضافة التطبيع بين العرب وإسرائيل! ويوجد اهتمام كبير بشخصية (أشرف مروان) على منصة نتفليكس، لدرجة أن تنتج له نتفليكس من حر مالها فيلما، ويظهر في ثلاثة أعمال على شاشة نتفليكس!
ومن أجل كل ما مضى، من المهم أن يكون لدينا وعي بخطورة هذا الكم الكبير من المحتوى الذي نتعرض له، والذي يعمل على تزييف الوعي والذاكرة التاريخية، واختراق عقول وقلوب المشاهدين من خلال القوالب الفنية، والمؤثرات البصرية المدهشة التي تغدق عليها (نتفليكس) ببذخ واضح؛ لتتسلل بهدوء إلى عقولنا وقلوبنا من خلال هذا المحتوى الجذاب والموجه، وأخطر ما في هذا المحتوى هو أنه أصبح موجودا بكثرة أمام أعيننا، وبين شريحة واسعة من الشباب والمراهقين، والنتيجة أن الجمهور قد ينتهي به المطاف إلى التأثر بالدعاية الإسرائيلية على منصة (نتفليكس).
ويبدو لي أن الهدف من المحتوى الإسرائيلي على (نتفليكس) لا يقتصر على جعل الناس يؤيدون إسرائيل، ويشعرون بالرضا تجاه موقفهم، إنما الهدف هو كسب قلوب وعقول جديدة لإسرائيل، وذلك في وقت تهاجم فيه إسرائيل في ديسمبر من العام 2021، عرض الفيلم الأردني (فرحة) بعدما قررت شبكة (نتفليكس) عرض الفيلم، وهو الأمر الذي أثار غضب دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث غرد (أفيغدور ليبرمان)، وزير المالية في الحكومة الإسرائيلية المنتهية صلاحيتها، وقال: (من الجنون أن نيتفليكس قررت بث فيلم هدفه كله خلق ذريعة كاذبة والتحريض ضد الجنود الإسرائيليين)، كما ذكر ليبرمان أنه سينظر في سحب دعم الدولة للمسرح العربي العبري في يافا، وذلك بسبب عرضه للفيلم.
وفي سياق متصل قال هيري تروبر وزير الثقافة الإسرائيلي إن عرض الفيلم في دور السينما الإسرائيلية يبعث على العار، الغضب العارم لم يقتصر على وزراء الدولة؛ حيث أعرب الكثير من الإسرائيليين عن غضبهم وقاموا بإلغاء اشتراك (نتفليكس)، حيث قال أحد المشتركين: (كيف تدعم نتفليكس هذا المشهد المروع وغير الواقعي الذي يتنافى مع الأخلاق الإسرائيلية؟)، في إشارة إلى المشهد الذي قام فيه جنود الاحتلال بقتل كل أفراد العائلة الفلسطينية بحسب تفاصيل فيلم (فرحة).
ويحكي فيلم (فرحة) للمخرجة الأردنية (دارين سلام)، قصة فتاة فلسطينية عمرها 14 عاما، تحلم بالانتقال من قريتها الفلسطينية إلى المدينة لمواصلة تعليمها، لكن تعرض القرية للاجتياح من قبل العصابات الصهيونية التي يتم تصويرها في الفيلم وهى تعدم الفلسطينيين، يدفع الأب إلى إخفائها في غرفة صغيرة، لتكون الفتاة شاهدة على تلك الأحداث التي غيرت حياتها.
ومن هنا تضعنا الأسباب السابقة، أمام حقيقة ضرورة تنظيمية للرقابة على المحتوى المقدم، دون التوجه لسيناريو الحجب التام، كما تفعل بعض الدول، نتيجة محاولة استخدام المنصات الرقمية في الترويج للهوية والثقافة والسياحة العربية، كما فعلت تركيا، والفيلم الوثائقي (سقارة) إلا أن الوضع التنظيمي المقتصر على المحتوى المقدم للجمهور العربي يجب أن يعي سيناريو المغالطات التاريخية التي يتم استخدامه بشكل واسع في إنتاج محتوى عابر للقارات يصل بشكل جذاب للجمهور العربي لتمرير سياسيات ووقائع تاريخية مغلوطة، وهو ما ظهر في عدة برامج تحتاج لإنتاج محتوى أصلي عربي (عابر للقارات) للرد عليها، في ظل وصف الأعمال التاريخية الإسرائيلية على سبيل المثال نفسها بالدرامية كبديل لمفهوم الوثائقية باعتبارها أعمال قائمة على (الحبكة الدرامية) لتلافي الانتقادات في حال التنبه للأخطاء (التاريخية)، والتي تستطيع أن تغير مفاهيم .. فكم منا يقرأ التاريخ وكم منا يشاهده؟!