بقلم الكاتب السوري: سامر عوض
عندما يفكر اللاذقيون بمن يترك بصمة أمان في المدينة، اعتقد أن الأستاذ (زياد عجان) هو على رأس أولويات الضمير الإحساسي الناضج، هو من عائلة موسيقية عريقة متجددة تهوى الموسيقا، وتعزف على وتر الحياة كل لحظة لكنهم صندوق أسود مقفول بمفتاح لا يملكه سوى ندرة من الناس.
قال لي شخص التقى يوما بغرفة انتظار طبيب بالأستاذ (زياد) لمدة ربع ساعة، قضاها عجان يدندن بينه وبين نفسه إلى أن جاء دوره ثم دخل إلى الطبيب، وخرج من عنده ليعود إلى دنياه وجبهته التي يعمل على أساسها كل لحظة.
دخل هذا الرجل الرزنامة السورية لأول مرة حين خرج يوم الجلاء السوري، حين كان طالبا في المدرسة، ويستحيل أن يترك هذا الإنسان المدينة لأنه راسخ في حناياها، ومستريحة في قلبه.
الموسيقي الحقيقي ليس من يعزف ويعرف، بل تفعل فيه وتقولبه ليكون منارة حقيقية تجذبك إليه.
أذكر يوما أنني سنة 2014 طلبت منه الصعود إلى مكتبة ما بحي القلعة، وهى مرتفعة (كان ذلك سوء تقدير خاطىء لصعوبة الوصول إليها)، صعد هذا الرجل العظيم إلى المكتبة وقد قام بعملية إحصاء الدرجات؛ كي يمنح الأمر متعة رغم صعوبات الصعود، وصل بمرح وعملنا بفرح، وعاد باصطهاج؛ لأن ميراثه هو السعي لتحقيق الخير المطلق.
إن طلبت منه شيء لباك؛ وإن شكرته يلومك، وإن استوضحته عن أمر توسع، ويسقيك المزيد إن شعر بحاجتك أو لم يشعر.
هو إنسان مبادر له مبادىء لا تعرفها، بل تعاينها بمسلكه، لأنه حسب (جواهر لال نهرو – بتصرف): (الفارق بين الحق والباطل، كالفرق بين النظرية والتطببق).
لا نظريات في قاموس هذا الرجل الطيب؛ لأن الممارسة هى الأساس، لا يعظك لأنه عظيم ولا تهمه الكلمات بقدر الأعمال الهائلة التي يقوم بها.
اتصلت به سنة 2015 قبل يوم من مشاركة بندوة (حول مسيحيي الشرق)، حيث جاء إلى صالة كنيسة مار ميخائيل؛ لكن لسوء وحسن الحظ لم أستطع أن ألقي السلام عليه؛ لأن الناس زعموا مرحبين بمعلمهم وصديقهم وصادقهم وزميلهم، حينها شعرت كما كل مرة أني أعرف شخصا ليس محبا وحسب؛ لأن ذلك لا يكفي حسب المطران جورج خضر، بل أن يكون محبوبا ايضا؛ لأن السعي التقي النقي للمحبوبية يتطلب مقاربة قاسية هو من روادها.
الأستاذ (زياد) بشوش ووهج عينيه ووجهه يريحان الناظر ويكسبا قلوبهم. هذه البساطة تقودك إلى ما وراءها من ملفات لا تنتهي ومشاريع تتطلب من يقوم بها، وهواجس يحياها ومدينة يحبها.
إن اتصلت به باكرا هو جاهز، وإن التقيت به في الشارع هو مستعد، يخدم الخير عند الجميع، فتراه يحمل آلة التسجيل ويذهب بها إلى حيث يطلبه الناس، يسهر في النهار وينام في الليل، لذا يهنىء بالشمس ويطرب بالقمر ولا يكترث بالقهر.
العائلة العجانية هذه تراث متراكم، لكن الأساس يكمن في موسيقا تعد الدنيا وزنا وميكانيكيتها إيقاعا والحياة واقعا، والحياء مسلكا.
عند التحدث عنه تجد نفسك مختارا من نسيج البساطة والعمق هذا؛ لا سيما أنه ينشد وكوليت الخوري (ويبقى الوطن فوق الجميع..)؛ هو الراية الخلاقة فوق رؤوسنا نناظر نساير ولكن في أمور الوطن لا تساوم.. هذا مواطن حقيقي يلحن تراتيل وأناشيد كنسية، ويؤرخ لتراث اللاذقية ويعشق ترابها وأرض سورية.
أنتظر منه إضافة حقيقية في إسهام (راؤول فيتالي) في مجال فك النوطة الموسيقية الأوغاريتية (ح/٦)، وأن يهتم بتأريخ مكتوب، وأن يسجل ما عنده بصورة ورقية وليس شفوية.
اللاذقية غنية بالطاقات والمتطابات، لكن غياب التنسيق يؤجج البرود، ويجرح القلوب، ويرجح كفة الأقوى ولو كان ضعيفا.. يسهل الندب ويكسر الندم صاحبه، لكن أن يبدأ المرء وعندها يحطم الخرافات ويكشف الحقائق.
الأستاذ (زياد) ممن يخلق بقعة ضوء في جو جميل بذكاء اجتماعي عاطفي حاد مطلوب، وذاكرة ثاقبة، وثبات في الموقف، وعدم الوقوف عند الصغائر لأنه من الأكابر.
أعتز به ان سئلت، واعتذر منه إذا قصرت، لكن بكل الأحوال أشعر أن مدينتنا مكونة من هؤلاء، هو درس الأهل وأولادهم وأحفادهم لغة عالمية شريفة رشيقة يفهمها الناس لتكسر رتابة الموقف، وهو من السلطات الروحية في المدينة لأن رسالته تغذي الروح.. يعجز اللسان لكن القلب يدرك؛ لذا شكرا لهذا المحارب على جبهة الداخل؛ ولنسمع صوته ونعتد بملاحظاته أكثر، هو الشاب الذي لن يبلغ من العمر عتية، والسلام.