بقلم: بهاء الدين يوسف
منذ قديم الزمان اعتدنا أن نصور الشخص الوطني خصوصا لو كان مسؤولا رسميا، ذلك الشخص الذي لا يرتكب أخطاء متسامح مع الجميع إلا فيما يخص الوطن، حتى كبرنا ونحن على قناعة كاملة بأن المسؤول الوطني (من حبه لوطنه وليس من الحزب الوطني المنحل) ليس بشريا ولا يجب أن يكون وإنما هو ملاك أنزله الله من السماء لتنعم به بلادنا.
كذلك اعتادت أعيننا و آذاننا على التعامل مع تشنجات الوطنيين وأسلوبهم الخطابي في الدراما باعتبارها سيمفونيات موسيقية يجب أن تطربنا وتشنف أسماعنا وعلى كل من لا يشعر بذلك (التشنيف) أن يحترس من أن وطنيته بعافية ومن ثم عليه مراجعة أخصائي في الوطنية بشكل سريع.
الأمثلة على ذلك التجسيد كثيرة ومتعددة في الدراما المصرية بشكل خاص والعربية بشكل عام، وتظهر بدرجة أكبر في الأعمال التليفزيونية وآخرها مسلسل (الاختيار) الذي عرض جزئه الثالث في رمضان الماضي، وكتبت وقتها مقالا هنا انتقدت فيه المبالغة في تجسيد ملائكية ضباط المخابرات وتصويرهم أنهم لا يقعون في الأخطاء التي يرتكبها بقية البشر.
مقابل كل ما سبق شاهدت بالصدفة قبل أيام مسلسلا فرنسيا (Women At War) على منصة (نتفليكس) يمكن تصنيفه بين الدرامي والوثائقي يحكي قصة 4 نساء فرنسيات وأدواره الوطنية خلال الحرب العالمية الأولى التي اندلعت بين عامي 1914 و1918.
وكانت دهشتي بالغة حين وجدت أن كل ما كنت أطالب به وأتمناه في الدراما العربية تم تنفيذه في المسلسل الفرنسي ما يعني أن تلك الأمنيات لم تكن مجرد تخاريف، فكل من البطلات الأربعة وقعت في خطيئة جسيمة تجعلها في نظر مجتمعها مجرمة أو آثمة، ما بين الراهبة التي انساقت لشهوتها الجنسية مع جندي ألماني أحبته وخانت تعهدها بالعفة، وبين بائعة الهوى التي تجوب البلاد بحثا عن ابنها الضابط الفرنسي الشاب الذي لم تره منذ ولادته، وثالثة تعيش مع زوجها وابنتها لكنها قادمة من حياة حافلة بالعمل في بيوت الدعارة وكانت تربطها علاقة شاذة مع بائعة الهوى، والأخيرة ممرضة مطلوبة للشرطة بعدما تسببت في موت سيدة كانت تجري لها عملية إجهاض محرمة في فرنسا في ذلك الوقت.
نماذج يمكن أن يراها أي مجتمع طبيعي غير سوية ولا تستحق التعاطف حتى لكن السيناريو دفع المشاهدين للتعاطف مع كل واحدة منهن والانجرار وراء دورها الوطني لصالح بلدها بعيدا عن خطاياها التي ستحاسب عليها أمام الله، كما لفت انتباهي كذلك طوال الحلقات الثمانية التي استغرقها المسلسل أن أحدا من المسؤولين أو الجنود أو المواطنين الفرنسيين الشرفاء لم يعط المشاهدين دروسا في الوطنية ولا أغنيات من عينة (فرنسيتنا غالية علينا زي عيننا) وإنما تم تمرير رسالة بسيطة بين زوايا مشاهد المسلسل بمنتهى الإتقان، وهى أن فرنسا كانت تتعرض لعملية بلطجة ألمانية تستهدف احتلالها وكانوا ينسفون كل ما يجدونه في طريقهم من حجر وبشر، لكن الفرنسيين صمدوا وقاوموا واستطاعوا الحفاظ على بلادهم حتى وهم يستمتعون بالحياة ويترددون على الكنيسة أحيانا وعلى بيوت الدعارة في أحيان أخرى.
وأختم بقصة ربما تكون طريفة تكشف أن الخطابة والعظة أسلوب حياة لدينا في مصر، أو أنني مصاب برهاب النقد منذ صغري.. القصة حدثت حينما شاركت في مسرحية تاريخية في المرحلة الابتدائية عن كفاح الزعيم الراحل (سعد زغلول)، حيث جسدت دور (ميلنر) المندوب السامي البريطاني في ذلك الوقت، وأتذكر أن دوري كان الظهور على خشبة المسرح أمام مئات الطلاب وأولياء أمورهم لأخطب فيهم بطريقة مسرحية قائلا: (أنا ميلنر جئت أحذركم من سعد زغلول)، والحقيقة أنني بذلت جهدا كبيرا لإلقاء تلك الكلمات البسيطة ليس لخجلي الشديد من الوقوف أمام الطلبة وخصوصا الطالبات، وليس لأنني أخفقت في حفظ دوري، ولكن كانت إرهاقي الأكبر في قول تلك الكلمات دون أن أغرق في نوبة من الضحك على الطريقة التي أنطقها بها ومضمون الكلام الساذج.