(البوسطجي).. تجربة رائدة في نقل العمل الأدبي إلى اللغة السينمائية
كتب: أحمد السماحي
“البوسطجي” واحد من أهم أفلام السينما المصرية، وواحد من أهم أفلام مخرجه “حسين كمال”، ويمثل تجربة جميلة جدا فى كيفية نقل العمل الأدبي إلى اللغة السينمائية، الفيلم قصة “يحيي حقي”، سيناريو الكاتب “صبري موسي”، و”دنيا البابا”، حوار: “صبري موسى”، إخراج “حسين كمال” فى ثاني تجاربه السينمائية بعد فيلم “المستحيل”، وتم عرضه عام 1968، وجاء نجاحه خجولا فى دور العرض، قام ببطولة الفيلم “شكري سرحان، زيزي مصطفى، صلاح منصور، سهير المرشدي، سيف عبدالرحمن، مشيرة إسماعيل، عبدالغني قمر، حسن مصطفى، ناهد سمير) وغيرهم.
تدور أحداثه بعد نقل البوسطجي “عباس” إلى “كوم النحل” القابعة في قلب الصعيد، ونشاهد طوال الفيلم أزمة هذا الموظف القادم من القاهرة والذي يصطدم بالحياة الروتينية البطيئة في القرية، ونظرا لفراغه ووحدته يرتكب جريمة كبرى حيث ينزلق سرا إلى حياة الآخريين لكي يخرج من سجن وحدته القاتل، عن طريق قراءة الرسائل التى يحملها بحكم وظيفته، والذي يتسبب رغما عنه بجريمة قتل مروعة، تذهب ضحيتها عاشقة صغيرة دفعت ثمنا رهيبا لحبها الذي ترفضه التقاليد والعادات الشديدة البأس المسيطرة على قرى الصعيد.
صبري موسى يتذكر
يتذكر الكاتب الكبير “صبري موسى” فى السيناريو المطبوع عن فيلم البوسطجي” علاقته بقصة الفيلم والسينما فيقول: عندما ظهرت مجموعة “دماء وطين” للكاتب الكبير “يحيي حقي” فى سلسلة “إقرأ” فى منتصف الخمسينات، لم تكن لي علاقة بالسينما سوى مشاهدة الأفلام السينمائية، وبالذات ما يصنعه الغرب منها، وكان الفيلم الأمريكي “دماء ورمال” المأخوذ عن قصة الحب الشهيرة التى تقع حوادثها فى حلبة مصارعة الثيران فى أسبانيا، يملأ شاشات العرض ويثير جدلا كبيرا بين هواة الأفلام، فأعجبتني السخرية التى خبأها “يحيي حقي” فى اختياره لعنوان مجموعته الصغيرة “دماء وطين”، لا عجب فيها قصة حب تدور حوادثها فى الصعيد بمصر في ثلاثينيات القرن الماضي، حين كان الصعيد منفى يعاقب الموظفين غير المرضي عنهم بالنقل إليه.
هذه القصة أثارت ضجة كبيرة فى الأوساط الأدبية والفنية حين نشرت عام 1956 ولفتت أنظار السينمائيين، وتعددت الأخبار فى المجلات والصحف عن استعداد المخرج “زيد” أو المنتج “عبيد” لتقديمها فى السينما المصرية، وكثرت المحاولات بالفعل لإعادة صياغتها سينمائيا، ولكن لم يقدر لأي من هذه المحاولات أن توضع فى مجال التنفيذ الفعلي، ثم بعد بضع سنوات بدأت تنتشر مقولة لعدد من السينمائيين بأن هذه القصة “دماء وطين” أو “البوسطجي” هى نموذج لنوع من الأدب لا يصلح للإعداد السينمائي، بل إن هذه المقولة قد شملت كل ما ينتجه “يحيي حقي” من قصص، فقاطعتها السينما المصرية رغم تكالبها على القصص الأدبية فى تلك الأيام.
لقد شعرت أيامها كأديب مهتم بالسينما أن في هذه المقولة ظلم فادح لأدب “يحيي حقي”، وعجز ممن يتولون أمور السينما، وحين قررت التصدي لتحويل هذا العمل الأدبي إلى معادله السينمائي لاحظت أن الشكل المتقدم الذي كتبت به القصة واقترب بها من السينما الجديدة فى ذلك الحين وخلق حولها كل هذا الإغراء عند السينمائيين المصريين سوف يكون إطارا متنافرا مع تلك الدراما الدموية التى تقع حوادثها فى مجتمع متخلف فى الثلاثينات من هذا القرن، إذا تم تحويلها إلى صور متحركة بنفس الأسلوب.
كانت تلك الملاحظة أو هذا الإدراك أشبه بالمأزق، فقد كانت الموضة أيامها عند تحويل الأعمال الأدبية هو البحث عن أشكال حديثة بديلة لأشكالها الروائية التقليدية، ورغم ذلك فقد اتخذت القرار أيامها بشجاعة أحسد عليها وبدأت فى انتزاع “دماء وطين” من الإطار الحديث المتقدم الذي وضعها فيه الفنان “يحيي حقي” ثم أعدت صياغتها سينمائيا بأسلوب تقليدي يناسب المكان المتخلف والزمان المتخلف الذي تدور فيه أحداث القصة، مع إضافة بعض الطعم الملحمي كتعويض عما تركناه من حداثة السرد القصصي.
حسين كمال يتكلم
بعد نجاح فيلم “المستحيل” فنيا، وفشله جماهيريا، جلست سنتين لا أقدم شيئا للسينما حتى عرض على “سعد الدين وهبه” رئيس مؤسسة السينما فيلم “البوسطجي”، ووجدته بعيدا تماما عن فيلمي الأول، ورشح لكتابته “صبري موسى” وزوجته ” دنيا البابا”، وعشقت تفاصيله، واستغربت من جرأة “سعد وهبه” لإسناده لي إخراج هذا الفيلم، وكان لدي عقدة من فيلم “دعاء الكراون” الذي موتني وعشقته لدرجة إني شاهدته “10” مرات وقت عرضه، وكان بيني وبينه “تار” وكنت أريد أن اتخلص من هذا الفيلم الذي كان في دمي، وبسبب هذا أقبلت على “البوسطجي”، كنت أريد أطلع “دعاء الكراون” من داخلي، وذهبت للفيوم أبحث عن الأماكن مع مهندس الديكور “حلمي عزب”الذي بحثنا عن “بوسطة” فلم نجد، فقال لي: حلمي أنا هبني لك “بوسطة” يا “حسين”، وبالفعل بنينا “البوسطة”، ولم تبخل علينا المؤسسة، وتعاونت فى هذا الفيلم مع المصور العبقري “أحمد خورشيد” الذي أضاف الكثير للفيلم.
تهشم “الراديو” فبكى صلاح منصور
أثناء تصوير الفيلم عام 1967 كانت الحرب بيننا وبين إسرائيل مشتعلة، فلاحظ المخرج “حسين كمال” وهو يخرج المشهد الأخير فى الفيلم والذي يقتل فيه الأب ابنته ويحملها على يديه، أن الفنان “صلاح منصور” الذي يؤدي دور الأب يضع تحت الجلباب الذي يرتديه راديو “ترانزستور” صغير يسمع من خلاله أخبار الحرب، فانتبه المخرج لهذا، فأوقف التصوير، وذهب إلى “منصور” وأخذ منه “الراديو” الصغير وقام بتهشيمه أمام عينيه، لأن الفيلم لا يحتمل سياسة ولا هزائم ولا انتصارات، والمشهد الأخير لابد أن يخرج بشكل صادق، وعندما شاهد “صلاح منصور” ما فعله ” حسين كمال” في الراديو، تأثر لدرجة البكاء، وهنا صاح “كمال” يلا هنصور، فحزن “صلاح”، وقد ظهر بشكل خرافي في المشهد وهذا ما كان يبحث عنه المخرج.
النقاد والبوسطجي
استقبل النقاد المصريين والعرب الفيلم بحفاوة نقدية كبيرة، ولم تقتصر الكتابة على المتخصصين فقط، فقد كتب عن الفيلم كبار الكتاب والسياسيين مثل “إحسان عبدالقدوس، يوسف إدريس، يحيي حقي، رجاء النقاش، محمود أمين العالم، محمود سالم” وغيرهم.
يقول الناقد رفيق الصبان عن ” البوسطجي”: في هذا الفيلم يتجاوز “حسين كمال نفسه عندما يعهد بالبطولة المطلقة إلى نجم كبير واحد هو “شكري سرحان”، ويخرجه عن نمطه التقليدي الذي عرف به في كثير من الأفلام الناجحة السابقة ليغرقه فى مياه انسانية شديدة العمق ومثيرة للتسأولات، ثم يعتمد بعد ذلك على أسماء مواهب تكاد تكون جديدة تماما، ولكنها بين يدي “حسين كمال” خرجت أمامنا وكأنها تحمل تاريخا طويلا من التجارب كــ “زيزي مصطفي” التى لم تكن حتى ذلك الحين إلا ممثلة تليفزيونية صغيرة لفتت النظر في ثلاثية “الساقية والرحيل”، ولكنها فى “البوسطجي” أطلت علينا ممثلة حساسة قادرة على اللعب بمشاعرها وإبراز أحاسيسها كلها في نظرة أو حركة أو إشارة.
وخلق حسين كمال من الوجه الجديد “سيف عبدالرحمن” نجما رومانسيا له كل مواصفات النجم الأول ومزاياه، كما قدم “سهير المرشدي” فى ضوء خاص، وعطاء خاص لم تكرره كثيرا، كما أطلق العنان تماما لموهبة “صلاح منصور” التى مسها مسا رقيقا فى المستحيل لتصبح فى”البوسطجي” هادرة كاسحة كالشلال.
فى “البوسطجي” يختلط الحس الفني بالحس الإجتماعي بانسجام مدهش ويلجأ “حسين كمال” إلى أسلوب اللوحات التى تتوالى والذي لا يغيب عن الذاكرة، إلى جانب اهتمامه الملفت للنظر لكافة الأدوار الثانوية وإعطائها الأهمية نفسها والثقل الذي يعطيه للأدوار الأولى.
بطاقة الفيلم
المولف : يحى حقي
الإخراج : حسين كمال
سيناريو وحوار صبري موسى
المونتاج : رشيدة عبدالسلام
التصوير : أحمد خورشيد
المكياج : رشدي إبراهيم
كوافير : فاطمة البكري
الديكور : حلمي عزب
الموسيقى التصويرية : إبراهيم حجاج
منسق المناظر : نجيب خوري
مساعد مخرج أول : حسن إبراهيم
مساعد مخرج ثان : حسن المفتي
كلاكيت : ماهر شفيق
التوزيع : شركة القاهرة للتوزيع السينمائي