منصور الرحباني.. فيلسوف الموت الحزين المهموم بالوطن والباحث عن الحب والسعادة (2/2)
كتب : أحمد السماحي
مرتفعا كالراية وجهي
ينظر في الآتي
أيام الحزن اقتربت
أدركنا زمن الدمع
فليحسن بين يديك وقوفي
بشراكة سر الماء القائم
بين البحر وبين النبع
مابين النار ووهج النار
بلغني أين يصلي الليل
وأين تقوم طقوس الزائل
هذه واحدة من أشعار المبدع العربي الكبير (منصور الرحباني) الذي يعد جزء من ذاكرة الثقافة العربية، وأحد الأساطير التى قدم لنا كل ماهو جميل ورائع وراقي.
طبيعة الأحاسيس
في شعر منصور الرحباني، سواء المغنّى منه أو المكتوب للمطالعة، نجد المطابقة بين البيت وروحه، بين الشعر والطبيعة، لا الطبيعة الخارجية، بل طبيعة الأحاسيس والالتقاطات فور انبثاقها) هكذا كتب عنه الشاعر (أنسي الحاج)، الذي كان يراه يردد دوما عبارة لجبران خليل جبران، تقول: (إن الشاعرَ هو أقرب الكائناتِ إلى فجر الأشياء)، وحين تسأله مَن أنت يا منصور الرحباني؟ فيجيبك: (حيث أنام تستيقظ الأحلام، وأنا الآن نائمكم).
عندما هدد باللجوء إلى القضاء
بعد وفاة شقيقه وتوأم روحه (عاصي الرحباني) ذكرت إحدى الصحف اللبنانية أن الأغنية التي تغنيها فيروز: (لملمتُ ذكرى لقاء الأمس) هى من نظم (منصور الرحباني) لا من نظم (عاصي الرحباني)، يومها هدد بإقامة دعوى على الصحيفة، وقال في رسالته إلى هذه الصحيفة أن ما صدر في حينه باسم (الأخوين رحباني)، هو لهما معا، لا لأحدهما دون الآخر، وأنه هو شخصيا لا يعرف اليوم حصته أوحصة عاصي في هذا العمل الرحباني أو ذاك.
وعلى الجميع أن يحترم هذه الحقيقة وأن يعتمدها، وأيّ قفز على هذه الحقيقة، أو أي تجاوز لها بعد اليوم من قبل أي كان، سيدفعه لرفع دعوى قضائية).
زانبوبيا والمتنبي وجبران وسقراط
لا شك أن رحيل عاصي أحدث ألماً وفراغاً عند منصور، لكنه لم يتوقف عن العمل، فأنتج وألف عدة مسرحيات هى أهم ما قدم في المسرح الغنائي العربي في الثلاثين سنة الماضية وهى: (صيف 840 ، الوصية، آخر أيام سقراط، قام في اليوم الثالث، زنوبيا، القداس الماروني، جبران والنبي، ملوك الطوائف، أبوالطيب المتنبي، حكم الرعيان، عودة طائر الفينيق).
خمس دواوين
عام 2007 أصدر خمس دواوين شعرية ونثرية هى (بحّار الشتي، والقصور المائية، وأسافر وحدي ملكاً، وأنا الغريب الآخر)، أما الديوان الخامس فهو (قصائد مغنّاة) فمن توقيع (الأخوين رحباني)، كتب خمسة شكلت متعة أدبية وجدانية للقارئ، استعرضنا الأسبوع الماضي بعض من قصائد ديوانه (أنا الغريب الآخر)، وهذا الأسبوع لن نقتصر على ديوان محدد نظرا لكثرة القصائد الشعرية، ولكن سنبحر في عالم منصور الرحباني الشعري ككل من خلال دواوينه الثلاثة التى لم نستعرضها الأسبوع الماضي.
بحار الشتي
يقع ديوان ( بحار الشتي) في 141 صفحة، يتضمن عناوين: (والحزن لونو ليلكي، وجك معبّي السهل، منفى، جايي بلا فرسان، غنية لمروان، غنية لغدي، غنية لـ اسامة، ثلاثين، صفا في البرد، مملكة النوم، كآبة، خيالك، عتبات اللوعة، قوليلهن، بعدو زغيّر، مثلو، غيره، صرّخلي، انا، شايف الطوفان، يلعن ابو هالعمر، ثريات الشتي، الباب انفتح، ثلاثة سبتمبر، نسوان القدر، الى تيريز، يا خالتي، زيارة، حلم ليلة 21 يناير).
القصور المائية
يقع ديوان (القصور المائية) في 147 صفحة، وعناوينه محصورة لكنها مفصلة اكثر: (كيف الوصول اليك، القصور المائية، كتاب الفقر، موت الآباء، ناده يا ابي، التلاشي الالهي، مسافات، شغف، الى عاصي، الصباحات الماطرة).
أسافر وحدي ملكاً
ديوانه (أسافر وحدي ملكا) يقع في 151 صفحة، و34 محطة شعرية من دون عناوين فرعية، بل عنوان الكتاب وحده الحاضر، وفيه الكثير.. فيه (الحرب، والقصف الطالع، من بيروت، ومن عربي يتقدم، يا بطلاً محتضراً،يرجم، في الأحداق تموت).
إستعراض بعد نماذجه الشعرية
يقول منصور الرحباني في قصيدته (مطر الرصاص) :
إليك يا من تسكنين
في الهاتف الليلي في الرنين
هذي الكتابات
وهذا الشوق والحنين
تساقط الزمان في أثوابنا
صرنا الينابيع وعشب الأرض
صرنا العمر والسنين
ما بيننا الرجال والحواجزُ
ما بيننا يُزوبع القناص
يا مطر الرصاص
آتٍ أنا
وجهيَ مثلَ البرق يأتي
من وطني الممنوع
من مطارحَ محجوزة
حيثُ السماءُ والتماعُ النار.
الحب والسعادة والحياة والوطن
كان منصور الرحباني مهموما بوطنه فكتب قائلا: (الوطن يفلت منا ونحن غافلون، عليكم أن تفكروا جيدا، ليس أمامنا بصيص ضوء، فيما أولياء الأمور يتناحرون على المكاسب والمناصب).
وكانت له أيضا مفاهيم عن الحب والسعادة والحياة، وصف الحب قائلا: (هو السر الجميل الذي يجب أن يبقى في قلب صاحبه، الحب هو زهرة لا يمكن الإطلالة عليها دائماً، إنه سر لا يجب كشفه)، وقال عن الحب في إحدى قصائده: (والحب حين يبدأ أن يكون سعيدا يبدأ أن لا يكون).
الحياة الجميلة
رغم أن النقاد أطلقوا عليه (فيلسوف الموت الحزين المطمئن) إلا أن عبارته كانت تشي بالتفاؤل، فكتب عن الحياة قائلا: (الحياة جميلة يا صاحبي، وكلما عشناها اكتشفنا أكثر سر جمالها، ومهما امتد العمر وطال، فهناك مسافات أخرى من الحياة لن نعرفها، كُتب علينا أن نعيش مسافة زمنية محددة، لا نعرف مدتها بالضبط، لذلك من الأفضل أن نعيش بكل ما نملك من حياة وحب وأمل وإبداع).
عن السعادة كتب قائلا: (السعادة قلقة أما الحزن فمطمئن).
النزعة الإنسانية
قدم منصور الرحباني أكثر من قصيدة إنسانية تتحدث عن الإنسان فيقول في إحداها: (سُكناي في مطالع القصائد
شمس الينابيع .. أنا
شعائر الصيف .. أنا
وكلما تحطمت ريح على بحر ٍ.. أنا
لي في الهنيهات مجئ ولي انقضاءُ
أحضرُ في التراب، في الأعشاب
في أجنحة الطير، وفي الهواء
أنا هو التحولات، والجذور والأعماق)
تتجلى في كلمات منصور الرحباني النزعة الإنسانية، حيث يقول في إحدى قصائده: (ما وقفت على أرض إلا وكان لها أصحاب: الأودية، الجبال، الشواطئ والسهول فمن أين نأتي بأرض للفقراء يا حبيبتي؟).
الحفيد والموت
يقول عن الموت في قصيدة (موت الآباء): (يجب أن يكون هناك موت، حفيدي الصغير كريم، هذا الصبي الحنون والمحب، لو شعر لحظة واحدة بأن من الممكن أن يبقى جده الى الأبد، فإن صراعاً فورياً سيبدأ بينه وبيني لإزالتي من طريقه، سيحاول قتلي بلعبته الصغيرة، فيجب أن يموت الآباء، لكي يعيش هؤلاء البرابرة الصغار، لأنه لو سيطر الأسلاف، سيذبل بهاء العالم).
الرحيل
عام 2009 دخل منصور الرحباني إلى مستشفى (أوتيل ديو) بعد إصابته بإنفلونزا حادة أثرت في رئتيه مما استدعى نقله إلى غرفة العناية الفائقة حيث مكث بها ثلاثة أيام، ثم أخرج منها لكنه بقي تحت المراقبة بعدما رفض الأطباء السماح له بالعودة إلى منزله، إلى أن توفي في 13 يناير 2009 عن عمر يناهز 83 عاماً بعد صراع مع المرض.
عودة الأخوين رحباني بعد غياب
قال ابنه (غدي الرحباني) عقب وفاة والده: (اليوم بعد 22 عاما من رحيل عاصي بعدما افترقتما في الجسد مدة وبقيتما سوياً بالروح عدتما واتحدتما ورجعتما الأخوين رحباني اللذين ارتميا برحم الأرض)، أما فيروز فقد سئلت ذات مرة عن الأخوين، فقالت: “عاصي ومنصور متشابهان كحبتي المطر).