كتب: محمد حبوشة
إنه حقا صانع البهجة المصرية الحقيقي، والباعث على الضحك العفوي الذي لايغالبه فيه أحد حتى الآن، ومازال حتى يومنا الحالي يملك ناصية الكوميديا التي تجلب السعادة عبر مفردات لاتخدش الحياء، بقدر ما تنعش الذاكرة الحية التواقة للمتعة العفوية في قلب القرن الواحد وعشرين، وذلك على جناح فن (الأبيض والأسود) دونما أية مكسبات لونية أو رتوش مزخرفة، ومن هنا يبقى (أبو السعود الإبياري) هو الكاتب والسيناريست والمسرحي وكاتب الأغنية القادر على مخاطبة العقل الجمعي بنسق أخلاقي لايفسد المشاهد الأكثر إضحاكا، بل يحيلها فلسفة طيعة تظل سارية مع مياه النيل الذي يجرى في عروق المصريين بمزيج عذب من الحكمة والجبروت على تحمل مصاعب الحياة القاسية.
فمهما بلغت بك النوائب وتعقدت الأيام، واشتدت الأزمات، فإن مشاهدتك لواحد من أفلام الراحل العظيم (إسماعيل ياسين) – الذي جعله الإبياري (أيقونة الضحك المصري) الذي لاتنتهي صلاحيتها مع مرور الأيام – يمكنك أن تضحك من القلب، وتستدعي كل مواطن القوة لاجتياز أعتى الصعاب، وتحيل المستحيل دروبا من السعادة والبهجة والعيش في سلام بصفاء روحي قادم من قريحة هذا الكاتب الكوميديان المبهر لغة وأسلوبا ومفارقات مذهلة مستمدة من نبض الشارع، وعلى قدر ماينتابك من هذا الشعور اللذيذ بالبهجة والسعادة من روح وخيال (أبو السعود) الإبداعي، فإنه حتما سينتابك شعور بالألم جراء ما عايش هذا الرجل من فصول الإنكار ومحاولات محوه من الذاكرة – حيا وميتا – على جناح تزييف متعمد لتاريخ فكاهي وفني رفيع، قل الزمان أن يجود بمثله، وهو مايبدو لنا واضحا من أوراق سيرته التي ماتزال تسكن وجدان غالبية المصريين، رغم كسر أنفه في عز عليائه الفني الذي ظل وما يزال يهدد عروش كثيرين ممن حاربوه بلا هوادة، أحياء كانوا أو مقبورين.
ربما احتاج (أبو السعود الإبياري) الذي لقب بـ (موليير الشرق، والجبل الضاحك، ومنجم الذهب، وجوكر الأفلام، والنهر المتدفق،) لمن يكتب سيرته في مجلدات توازي حجم موهبته وإنتاجه الفني – قدم أبو السعود الإبيارى 300 مسرحية وللسينما أكثر من 500 فيلما من أهم أفلامها وهو ما يتجاوز نسبة 15% من الأفلام المصرية، كما كتب أروع الأغانى التى يتجاوز عددها 300 أغنية، كماعمل بالصحافة وكتب العديد من المقالات لمجلة الكواكب وغيرها – حتى جاء ابنه (أحمد الإبياري) ليقدم لنا مقتطفات من إبداعه الحي في مسرحية استعراضية بعنوان (كازينو بديعة) والذي لايرصد فيها قصة حياة (بديعة) بقدر ما يكشف لنا عن كنوز (الإبياري) المبهرة على مستوى اللغة والحوار والمونولوج الذي استمده من حياة الناس وتعبيراتهم ومعايشته لهم في الشوارع والحارات والمقاهى، لذلك عاش هذا الفن وصدقه الناس وحفظوه.
كان مونولوجه الأول تحت عنوان (بورية من الستات) غناء (سيد سليمان) يعد بمثابة نقطة الانطلاق الأولى في (كازينو بديعة)، لم يمر المونولوج على الفنانة بديعة مصابني مرور الكرام، فقد كانت تمتلك عين جواهرجي بإمكانه التقاط الأصيل والنفيس لتقديمه في الكازينو الخاص بها، وهذا ما فعلته مع الإبياري، ففي هذا (الكازينو) اكتشف أبو السعود موهبة جديدة بالإضافة إلى كونه زجالا، فكتب أول مسرحية له بعنوان (أوعى تتكلم) عام 1933م، بعد نجاح مسرحيته الأولى أصبح واحدا من أهم كتاب كازينو بديعة، فقدم على مسرحها رواية كل أسبوع، أي أربع مسرحيات في الشهر الواحد مع كتابة الأغاني الخاصة بالعروض أيضا، واستمع (أبو السعود الإبياري) إلى منولوج كانت تقدمه محطة (فيولا الإذاعية) للمنولوجسيت الشاب (إسماعيل ياسين) فأعجب بصوته وخفة ظله وقدرته على أداء الكلمات وتوصيل المعاني، وعلى الفور عرض على بديعة أن تلحق تلك الموهبة للعمل بالكازينو.
ومن بعدها قدم بالتعاون مع (فرقة إسماعيل ياسين) عدة مسرحيات منها (سيدتي العبيطة، حكاية جوازة، بنت ملك السجق، حماتي في التليفزيون، عمتي فتافيت السكر، يا قاتل يا مقتول، عازب إلى الأبد، عقول الستات، منافق للإيجار، الحبيب المضروب، 3 فرخات وديك، اتجوزت حرامي، بوهيجي الغرام، مراتي من بورسعيد، الكورة مع بلبل، جوزي بيختشي، من كل بيت حكاية، عفريت خطيبي، جوزي كداب، صاحبة الجلالة، خميس الحادي عشر، ركن المرأة، أنا عايزة مليونيرة، حرامي لأول مرة، حبيبي كوكو، الست عايزة كده، عريس تحت التمرين، عمارة بندق، كنتي فين امبارح، يا الدفع يا الحبس، ضميري واخد اجازة، عايزة احب).
ربما لامس عرض (كازينو بديعة) من تأليف (أحمد الإبياري) بعضا من هذا التراث الهائل لـ (أبو السعود الإبياري)، هذا النجاح الكبير الذي صنع اسمه كان من خلال الكوميديا، وهو الذي مزج بين كوميديا الهزل والموقف والنكات والقفشات الضاحكة، كما يظهرلنا في أعمال مثل: (المليونير، فاطمة وماريكا وراشيل، سكر هانم، عايز اتجوز، جنة ونار)، فكان تميمة الحظ لنجاح الكثير من النجوم وقتها، مثل (محمد فوزي وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ)، كما لامس العرض الذي تدفقت فيه قدرة (أبو السعود الإبياري) على كتابة (الإفيهات) بمهارة خاصة لديه، والتلفظ بها بمهارة وقدرة على الإضحاك بطريقة إسماعيل ياسين، كان سر التجاذب الذي دام لفترة طويلة بين الثنائي الأشهر في السينما والمسرح فكونا معا فرقة (إسماعيل ياسين) والتي قدم فيها الإبياري 65 مسرحية.
إلى جانب الأفلام التي قدماها معا، ساهم (أبو السعود الإبياري) في نجاح (إسماعيل ياسين) بشكل كبير من خلال تقديم الإفيهات بشكل مكثف في أفلامه سواء السلسلة التي حملت اسمه (إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين، إسماعيل ياسين في الجيش، إسماعيل ياسين في البوليس، وحتى الأفلام الأخرى مثل (حماتي قنبلة ذرية، عفريت عم عبده، الحموات الفاتنات، إنسان غلبان)، وكذلك (إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة، والمفتش العام)، وقدم في فيلم (المليونير) محاكاة ساخرة لنابليون بونابرت والإمبراطور الروماني (نيرون) والشاعر العربي (عنترة بن شداد) من خلال استعراض (عنبر العقلاء).
مسرحية (كازينو بديعة) هى عرض كوميدي استعراضي غنائية لا يلقي الضوء على حياة ملكة المسرح والاستعراض (بديعة مصابني) بقدر ما تلقي الضوء على الكازينو في فترة الأربعينيات والعروض التي كانت تقدم به، وشكل المجتمع المصري آنذاك، هى حالة إبداعية مكتملة العناصر يقدمها صناع مسرحية (كازينو بديعة) التي تقدم رؤية لكواليس يوم من أيام الكازينو بعد عام 1940، مع تقديم لوحة مسرحية عما كانت تقدمه (بديعة مصابنى) وتؤمن به، وتعاونها مع الكاتب الكبير (أبوالسعود الإبيارى)، كتبها أحمد الإبيارى ويخرجها طارق الإبيارى، ويشارك في بطولته كل من سمية الخشاب التي تعود من خلالها للمسرح بعد غياب 19 عاما، ومعها أحمد فتحى، إدوارد، فتحى سعد، علاء زينهم، إيمى طلعت زكريا، استعراضات عاطف عوض، ألحان وموسيقى هيثم الخمسى، ديكور حازم شبل، ملابس مروة عودة، الإشراف على المونولوجات (حسن إش إش)، موزع موسيقى المونولوج محمود صادق.
تنطلق المسرحية بمشهد يجمع بين طارق الإبيارى (محروس) المذيع بكازينو بديعة ومقدم الفقرات الذي يرتدى الملابس الأنيقة ويمتاز بالجمال والشياكة، وهو داخل محطة القطار في انتظار ابن عمه حسن – إدوارد – العاشق للفن والغناء والتمثيل ويحلم بأن ينضم للكازينو ويعشق فن بديعة مصابنى، لكنه يعانى من الخجل الشديد ما يؤثر جدا على كل تصرفاته، ونجح إدوارد في إقناع الحضور بانفعالاته ومعايشته للشخصية، وهو الوحيد الذي قرر الغناء (لايف) دون الاعتماد على خاصية الـplayback خلال العرض، وغنى للموسيقار محمد عبدالوهاب (يا مسافر وحدك) بمشاركة سمية الخشاب، بالإضافة لمونولوج للراحل إسماعيل ياسين تحت عنوان (أصلى مؤدب).
ومن خلال مشاهدتي لعرض (كازينو بديعة) أستطيع القول بأن (أحمد الإبيارى) اختار بعناية فائقة بعض الاسكتشات لتكون ضمن عروض المسرحية تكشف كيف كان الكازينو يناقش المشاكل التي كان يعانى منها المجتمع في هذا التوقيت، ومنها (تسعيرة الزواج) الذي تناول المغالاة في طلبات الأسر وقتها، دنيا الحب، هاعيش منافق) وغيرها من استكتشات ترصد هموم المجتمع في أربعينات القرن الماضي، وتخلل العمل العديد من الاستعراضات والأغانى التي قدمتها بطلة برشاقة وحركات خفيفة (سمية الخشاب)، ونجحت في التحدى الذي وضعها فيه (الإبيارى) لتجسيدها شخصية (بديعة مصابنى)، وعكست كيف كانت (بديعة) عاشقة للفن المصرى، ومحبة لمصر جدا وتعتبرها بلدها بعد لبنان، صاحبة شخصية قوية، متفهمة، محبة لكل المحيطين بها، ترفض دخول الإنجليز للكازينو وقت الاحتلال، خصصت عروضا صباحية للسيدات، وذلك كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع، وفتح الصالة لقوات الحلفاء وقتها فقط
جاء التابلوهات العديدة التي غنتها (سمية) خلال العرض المسرحى ببراعة وقبول كبيرين، منها (مصر، منظرك جميل، دنيا الحب، نشيد الدفاع الوطنى)، فضلا عن أغنية (هنا مسرح بديعة) التي افتتحت بها العرض، وكذلك أوبريت (دنيا الحب)، أغنية (شبيك لبيك) أغنية (لبنان في القلب) وقدمت العديد من الاستعراضات التي – على مايبدو – تطلبت منها تدريبا طويلا، لذا جاءت مختلفة ومميزة وأبهرت الحضور، وخسرت سمية جزءا كبيرا من وزنها لأداء شخصية بديعة، التي تعتبرها من أصعب التجارب التي قدمتها على خشبة المسرح، ومن هنا فقد نجحت (سمية الخشاب) في التعبير عن مشاعر (بديعة) من خلال عرض صعب، طويل، ملىء بالتفاصيل، خاصة فكرة الرجوع بالزمن ولكن بتقنيات 2023 لم يكن أمرا سهلا، وقد بدت سمية في النهاية نجمة جميلة، ممثلة شاملة، تغنى وتمثل، متحمسة للمسرح، وتجسد شخصية فيها هيبة، وتتمتع بالهيبة والكاركتر، وهو ما يناسب متطلبات الدور، حيث قدمت كوميديا، غناء، استعراض، مشاهد تمثيلية قوية، مركزة جدا طول الوقت تبحث عن الأفضل.
وجود الكوميديان التلقائي بفطرية منقطعة النظير (أحمد فتحى) وظهوره كان قويا في (كازينو بديعة) من خلال تجسيده شخصية (فتحى عدس)، أحد أعضاء فرقة بديعة، فلا يترك (فتحي) أي حركة في المسرح إلا ويعلق عليها ويبدأ في إضحاك الجمهور، أحدها إفيه كان يقوله لسيدة يتقدم لخطبة ابنتها باسكتش تسعيرة زواج، و(كيلوبيد، وأنا فيشيتزيان)، يحب بديعة، ويحاول التقرب منها، لكنها ضمن الأحداث يرتبط قلبها بحسن – إدوارد – دائما ما كان فتحى يخرج عن النص ويبحث عن فرصة لإضحاك الناس، مرة على ملابس طارق الإبيارى الذي يقوم بتبديل قرابة (10 جواكت) على مدار العرض، ويقول له فتحى (علشان أنت أبوك المنتج يعنى صارف نص ميزانية المسرحية على لبسك، وأنا الغلبان ملبسنى بنطلون أحمر، ولبس غريب!)، ومرة أخرى يحاول (فتحي) أن يفتح حوارا خارج النص مع سمية الخشاب وترد عليه (إنجر يا فتحى، كمل المسرحية) وأخرى حينما يخطئ في أسماء باقى الشخصيات ويقول (هو أنا أغيب كام يوم أرجع ألاقيكم غيرتوا الأسامى في المسرحية ينفع كده؟)، ودائما ما يحرص (فتحى) على خلق حالة تواصل مع الجمهور ومحاورتهم، وحظى بتحية الجمهور أكثر من مرة.
لكني ظني أن إطالته في الخروج على النص نال كثيرا من اكتمال نجاح العرض، ولذا يعاب على العرض المسرحى أنه يصل إلى 3 ساعات، وفيه بعض المشاهد بها تطويل ومد بدون داع ويحتاج لبعض من (الشد) حتى تأتى الأحداث سريعة، ولكن تبديل الديكورات كان يتم بسلاسة واحترافية، ورؤية طارق الإبيارى الإخراجية كانت جيدة، وكذلك أدائه لدور (محروس) مقدم الفقرات في مسرح (بديعة)، ولعله نجح في الاستعانة بشاشة عرض ضخمة في خلفية المسرح، وبعض الديكورات الغنية في التفاصيل رغم بساطتها، وأيضا الموسيقى والاستعراضات لعاطف عوض كانت من أهم عوامل المتعة البصرية في العرض.
أعتقد أن أهم إيجابيات العرض هو ظهور الفنان (علاء زينهم) في شخصية والد عروس صاحب شخصية ضعيفة أمام زوجته في اسكتش تحت عنوان (تسعيرة زواج)، وأخرى حينما ظهر مرتديا زى الشرطة ويعمل شاويشا بأحد الأقسام يحرر محضرا ضد أحد الأشخاص الذي يواجه أزمة بسبب كونه محترما ويرفض السرقة، كذلك يبدو ملحوظا اجتهاد (إيمي طلعت زكريا) في مساندة (طارق الإبياري) لتضفي أجواء من البهجة، كما برع (صالح عبد النبي) مدير مسرح بديعة في تجسيد شخصية (حليم) ابن شقيقة (بديعة) على مستوى لغة الجسد واللهجة الشامية التي أجادها على نحو احترافي يلفت الانتياه لموهبته وتكنيكه الخاص في الأداء وهو ما يمكن استغلاله في أعمال مسرحية وتلفزيونية قادمة.
وأخير أقول: على الرغم من أن (كازينو بديعة) يعتبر تأريخا مبسطا للغاية لفترة من حياة (أبو السعود الإبياري)، إلا أننى أري أنه لابد من إتاحة فرصة أكبر لعرض سيرة هذا العملاق الكبير، لأنه من القلائل الذين استطاعوا أن يجمعوا بين الغزارة والجودة الفنية، وأبرز دليل على ذلك أن الشخوص التي خلقها لا تزال حاضرة حتى اليوم بآفهياتها الشهيرة التى لا نكف عن ترديدها حتى اليوم، ليظل أسطورة فنية لاتتكرر، ويبقى فيض محبة الجمهور في مصر والعالم العربي من فرط موهبته كشلال هادر في حياتنا الفنية المصرية والعربية، فعندما يعرض فيلم له تجد صداه في قلب الشارع في اليوم التالي لعرضه، فليس من السهل أن تستطيع أن تبعث البهجة في نفوس الآخرين، كما كان يفعل (الإبياري) مع جمهوره، ومن هنا يصبح من غير المنصف أن يكون واحدا من أكبر الشخصيات التي شاركت في صنع البهجة للجمهور من خلال أعماله العملاقة، ولم يعرفه كثيرون خاصة من شباب الجيل الحالي.