بقلم: كرمة سامي
ماذا لو سألتك عن أفضل أفلام السينما المصرية؟
ستذكر لي بالطبع (البوسطجي، القاهرة 30، وشباب امرأة، والزوجة الثاني، والحرام، وأم العروسة والحفيد)، وستلاحظ عندئذ أنها يجمعها أصلها الأدبي.
وماذا لو سألتك لماذا لم تعد السينما المصرية تقدم لنا هذه النوعية من الأفلام؟
ستجيبني: وأين النص العظيم الذي سأستلهمه لأقدم فيلمًا كهذه الأفلام العظيمة؟
لابد أنك شاهدت (البوسطجي) قصة يحيى حقي، إخراج حسين كمال، و(الأرض) رواية عبدالرحمن الشرقاوي، إخراج يوسف شاهين، و(الطوق والإسورة) رواية يحيى الطاهر عبدالله، إخراج خيري بشارة وتفتخر بهم قصة ومعالجة سينمائية وعناصر فنية مختلفة.
سأقترح عليك الآن عملًا أدبيًا لا يقل عنهم، وربما بين يديّ كاتب سيناريوموهوب وقدير مثل حضرتك يتجاوزهم، وهذا طبعًا لا يزعجنا مشاهدين ونقادًا، فالأصل أن نواصل خطواتنا في مسيرة الثقافة من حيث انتهى الذين سبقونا، أن نتقدم لا أن نتراجع.
العمل سيدي الفاضل قصة قصيرة عنوانها (النشيد في البر الغربي) ضمن مجموعة (الليل.. الرحم) للكاتب المصري الكبير (محمد روميش)، وإذا لم تكن قد سمعت عنه فهذه نقيصة، أما إن كنت سمعت عنه فهذه كارثة!
كيف تكون فنانًا، كاتبًا للسيناريو بحجم حضرتك ولم تقرأ له، وإذا كنت قرأت له كيف طاوعت موهبتك لتتجاهل نقل إبداعه إلى الشاشة الكبيرة أو الصغيرة؟
هذا العمل الذي أقدمه لك يعيدنا إلى عصر السرديات العظيمة، اقرأه جيدًا القراءة المستحقة له وجهز أوراقك وأمسك بقلمك وأغمض عينيك وسيقودك القلم عبر أحداث القصة متخيلًا مشاهدها وحوارها ونسيجها الذي تتشابك فيه بكارة الريف ودنس الاستعمار وقهر الرجال واغتيال البراءة الريفية، حتى الموسيقى ستنبعث شجية فيوجدانك مع مشاهد (إبراهيم وست أبوها) ووقع حوارهما بلهجتهما الريفية الدلتاوية.
نسيت أن أخبرك أن (روميش) من قرية (تلبانة) بمحافظة الدقهلية، وأديب بارع براعة عبقرية متمكنة في تصوير الريف بأجوائه وغيطانه وسككه وأشجاره وطيوره وحميره وترعه وفلاحيه وحيواناتهم وسيزدان حوارك بمفرداته الريفية الدقيقة الثرية ويعطي مصداقية للعمل وترسيخًا لهويته المصرية.
صدرت المجموعة عام 1969 وأعادت روايات الهلال إصدارها عام 1986 وأشاد بها النقاد، وقال عنها (يحيى حقي) إنه في جنباتها يشم (رائحة تراب القرية).
ستأخذ براحك في رومانسية مشاهد جني القطن الندية وموال (إبراهيم) الذي يتغزل به في جمال ست أبوها:
عندي.. من الورد
بستان.. ورد
بيطرح.. ورد
وتغوص في الوجع الإنساني في مشاهد عمال الجبل، وتثبت براعتك في الانتقال الزمني بين الماضي والمستقبل محافظًا على الخيط الحريري الرفيع الذي نسجه روميش بينهما، وتتوقف مع المشاهِد عند سقوط أشعة الشمس على ورق شجرة الجوافة الخضراء الداكنة وثمارها الصفراء لتلتقطا معًا أنفاسك ما قبل استئناف رحلة الوجع الإنساني مع ست أبوها بعد أن شاب الشعر الأسود وتغضن الخد الوردي وانكسر الظهر من حمل السنين، وأخيرًا ستترك لنا في ذاكرتنا السينمائية تجسيدًا بصريًا لبطل وبطلة يقفان على نفس الأرض مع (عتريس وفؤادة وأبوالعلا وفاطنة).
لن أطيل عليك، الرحلة على وشك الإقلاع من مطار الإبداع، والويل لك ثم الويل إن أردت أن تكتب اسمك إلى جانب (دنيا البابا وصبري موسى، وحسن فؤاد، وصبري عزت وعبد الرحمن الأبنودي، ومحمد مصطفى سامي وسعدالدين وهبة وصلاح أبو سيف)، وفاتتك هذه الرحلة مع (روميش).. أحد أهم كتاب مصر المحروسة.