كتب: محمد حبوشة
من جديد يعود (موسم الهجرة إلى الشمال) في الدراما العربية، حيث تشهد الساحة الفنية في الفترة الأخيرة، اتجاه بعض صناع الدراما نحو تقديم مسلسلات مأخوذة عن أعمال فنية تركية سبق وعرضت في سنوات ماضية، كما اتجهوا لتصوير تلك الأعمال في موطنها الأصلي تركيا، في المقابل، أعاد هذا التوجه فتح باب الجدل بين الجمهور حول جدوى تقديم نسخ عربية من أعمال من جنسيات أخرى، بين فئة رافضة له وداعية إلى دعم المبدع العربي، باعتباره الأقدر على طرح قضايا مجتمعه، وفريق آخر يرى أنه لا ضرر من إعادة تقديم هذه الأعمال طالما تحمل مقومات النجاح كنوع من التبادل الثقافي.
تلك الأعمال ليست الأولى من هذا النوع، فقد سبق وعرضت مسلسلات عربية تمثل نسخ أعمال تركية، واستطاعت أن تحقق نجاحا لافتا مثل مسلسل (عروس بيروت) وهو نسخة ليست فقط في القصة ولكن في الشخصيات والديكور والأجواء العامة من مسلسل (عروس اسطنبول) الذي يتألف من ثلاثة أجزاء تضم 80 حلقة، ويتناول قصة حقيقية جرت أحداثها في حقبة قديمة، أيضا مسلسل (ما فيّي)، الذي ضم 60 حلقة، وهو مأخوذ عن مسلسل (جسور والجميلة)، رغم أن صناع المسلسل حرصوا على نفي الاقتباس من العمل التركي في بداية الأمر، وهو ما أثار جدل حول مبررات هذا النفي.
من جانب آخر، غالبا ما كانت الأعمال المقتبسة محل جدل بين الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ انقسمت الآراء بين فئة ترى أنه لا ضرر من تقديم نسخ عربية من أعمال حققت نجاحا سابقا بلغات أخرى، على أن تتم معالجتها دراميا بما يتناسب مع المجتمعات العربية وعاداتها وتقاليدها وطبيعة الحياة فيها، وفئة أخرى ترفض هذا التوجه، وترى فيه فقرا في الإبداع العربي، أو تجاهلا للمواهب في المنطقة، مطالبة المنتجين بإتاحة الفرصة أمام المؤلفين الشباب وتوفير ميزانيات إنتاجية مناسبة لتقديم أعمال عربية مميزة.
وأشار مؤيدو هذا التوجه إلى أن المنصات الرقمية أسهمت في إحداث تغيير في ملامح الإنتاج الدرامي العربي، فقلصت من سيطرة الأعمال الطويلة التي تمتد لـ 30 حلقة أو تزيد لمصلحة أعمال قصيرة تراوح حلقاتها بين سبع و10 حلقات، كما رسخت فكرة ورش الكتابة التي تضم مجموعة من كتاب السيناريو الشباب تحت إدارة كاتب مخضرم لتقديم عمل درامي واحد، أيضاً أسهمت المنصات الرقمية مثل (شاهد) تحديدا في توجيه الدراما العربية نحو أشكال درامية مختلفة لم تكن تطرح من قبل إلا بصورة محدودة مثل الرعب والتشويق والخيال العلمي وغيرها.
والملفت للنظر أنه في الأعوام الأخيرة يبدو واضحا أن المسلسلات الأجنبية اكتسحت لا سيما (التركية منها) العالم العربي وسيطرت على كل شاشاته ومنها اللبنانية، كما أن متابعة الناس لتلك المسلسلات زادت أثناء فترة البقاء في المنزل أثناء جائحة كورونا على الصعيد المحلي، نرى أن غالبية الشعب العربي تستذكر أولى المسلسلات التي أحدثت ضجة كبيرة في العالم في وقت لم تكن التكنولوجيا بهذا التطور، مثل مسلسل (سنوات الضياع) ببطلته المعروفة على الصعيد العالمي خديجة توبا بويوكستن، ومسلسل (نور ومهند) ببطله كيفانش تاتليتوغ، وكانا من أوائل المسلسلات المدبلجة التي عرضت في العام 2005.
وفي ظل اكتساح المسلسلات التركية الوطن العربي خصوصا، أين دور المسلسلات العربية، ونقصد بالدرجة الأولى الدراما اللبنانية – السورية؟
في السابق كنا نسعى إلى مقارنة الدراما اللبنانية بالسورية والتركية والمصرية باعتبارها في أكثر الأحيان ركيكة من حيث السيناريو والتمثيل، لكن مؤخرا بتنا نشهد تطورا ملحوظاً في أداء الممثلين اللبنانيين إضافة إلى التعاون اللبناني – السوري الذي يضفي عنصر التنوع والجذب للمشاهد، والتعاون مع أطراف أخرى، وهذا ما شهدناه مؤخرا في مسلسل (ستيلتو) المقتبس عن المسلسل التركي (جرائم صغيرة) وهو من إنتاج تركي، وتعاون فيه فريق عربي – تركي وتدور أحداثه في تركيا، كما يام حاليا تصوير مسلسلات عربية أخرى مقتبسة عن مسلسلات تركية تمثل أيضا في تركيا، وهذا يبدو الترند الجديد الذي سيصاحب الممثلين اللبنانيين والسوريين.
بعيدا عن إمكانية الاقتباس، وعن كونه فعلا كثير التكرار في مختلف البلدان، فإنه يشي بضعف الإنتاج الفني العربي بشكل ما، وعدم القدرة على الحصول على نصوص تستحق الإنتاج، أو يمكن المغامرة بتصويرها، فمن بين الأعمال التي يتم تصويرها في تركيا، لاوجود لنص أصيل، وهل من دلالة على الهزالة الفنية أكثر من ذلك، تلك المشكلة التي يتم تجاوزها وعدم الوقوف عندها لدى كوادر تلك الأعمال، الذين لا يخفي أحدهم مدى انبهاره بالإنتاج التركي، وقبوله أن يقدم نسخة معربه عنه، على الرغم من أن تلك الأعمال أعمال اجتماعية، ولعل لدى الشعوب العربية من القضايا الاجتماعية ما يكفي لبناء أعمال أصيلة، يجنبها تكرار المكرر، واشتقاق تجارب الآخرين، التي لا بد ستصدم بشكل ما مع الواقع العربي، وستعاني ضعفًا من زاوية انتماء قصصها وشخوصها إلى مجتمع آخر.
والواضح لي تماما أننا على ما يبدو لم نستوعب بعد أن تركيا في مرحلة محاولة ترسيخ قوتها الناعمة في المنطقة العربية وتستثمر الكثير في هذا الاتجاه من أجل إنتاج محتوى مبهر يجذب الإنتباه لجذب المشاهد العربي تماما كما كانت تفعل مصر حتى فترة التسعينيات، مصر ليس من أهدافها في هذه المرحلة ترسيخ قوتها الناعمة في تركيا ولكن يهمها مواجهة تركيا في المنطقة العربية في هذا المجال وهي ما بدأت تستعيده ببطء مؤخرا مع انتاج اعمال راقت للمشاهد العربي وهو ما يجب أن تدعمه الدولة المصرية ولكن يظل الانفاق عائقا في هذا الاتجاه.
كانت الدراما المصرية في الماضي، كافية لتخدير المواطن العربي الهارب من الواقع البائس إلى الخيال، إلى أن استنفذ المنتجون حيل تزوير هوية الأفكار الأصلية للمواضيع التي غالبا ما تكون مقتبسة عن أعمال درامية أجنبية، تم تفصيلها على مقاس المجتمع العربي وتلبيسها القفطان أو الطرحة، ودخلت الدراما السورية على الخط وتخصصت في التوثيق التاريخي لمجتمعات بلاد الشام، فأعجب المشاهد العربي بنماذج النساء السوريات الجميلات والمطيعات، وحلم الذكور بزوجات من فصيلة (يا تقبرني)، و(يا تقبشني يا ابن عمي)، وجاءت الدراما الأردنية التي تخصصت في مسلسلات تعكس حياة البادية، لتغذي خيال الحالمين بأمجاد القبيلة وقصص الشهامة والرجولة التي انقرضت، بينما لم تنجح دراما بقية الدول العربية في اختراق أسواق التوزيع لأسباب مختلفة، فدراما شمال غرب إفريقيا مثلاً، ذات لهجة صعبة مركبة تلاقحت مع المفردات الفرنسية والبربرية وبعض الإسبانية.
بينما الدراما الخليجية، خيالية لا تعبر عن هموم الغالبية العظمى من أفراد مجتمعات الوطن العربي، لتركيزها على قصص الحياة المرفهة التي زادت من شعور المشاهد باليأس الناجم عن هوة المستويات المعيشية في مجتمع لا تكاد تخلو قصصه الدرامية من أمثلة الاستهتار وقصص الاعتماد على العمالة الآسيوية الوافدة وما يتعلق بحياة البذخ في القصور والفلل من تعقيدات اجتماعية ذات خصوصية خليجية، فكانت النتيجة، التوجه إلى سد عجز السوق باستيراد الدراما المعلبة من الخارج.
ورغم جميع ما ذكرت من سلبيات متعلقة بهفوات الاقتباس، إلا أن المسلسلات التركية باتت أمام حقيقة مرة، وهى أنها اجتذبت النساء العربيات ومعظم رجالهن كما تجتذب قطعة لحم مكشوفة الذباب الأزرق، إذ وجدوا في هذه المسلسلات الرومانسية المفقودة، واحترام المرأة، ووسامة الرجال، وحرية المرأة في دولة منحتها حقوقا مرفوضة في غالبية دول الوطن العربي، مثل حق تزويج نفسها دون ولي حين بلوغ سن الثامنة عشرة، وحق إجهاض جنينها دون قيد أو شرط وفي سرَية تامة ودون أخذ رأي والد أو زوج أو…، وتقبل العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وأنه رغم أن المجتمع التركي مسلم، إلا أن معظم الرجال والنساء لا يجدون ضيراً في تعاطي الخمور.
والخطورة هنا تكمن في أن جميع هذه الأمور تسربت للمشاهد العربي وأثرت في مناعته الثقافيه بهدوء وسلاسة ودون أي جلبة، رغم أن بعض المشاهدين رفضها جملة وتفصيلاً، إلا أن البعض الآخر وجدها منطقية، وأفرحه أن يجد نموذجا لمجتمع يفترض بأنه مسلم لكنه لا يعاني صرامة الرقابة، بينما كان الرابح الأول هو اقتصاد مبني على الجذب الدعائي من خلال الشاشة الصغيرة وموقع الانترنت، ورغم اختلاف الدول العربية على أشياء كثيرة، إلا أن مشاهدي جميع الدول العربية اتفقوا بالإجماع على أن الدراما التركية لا يعلى عليها، ولها تأثير السحر.
يعتبر مسلسل ستيليتو من أبرز المسلسلات التي سوف تعرضها منصة شاهد VIP في الفترة المقبلة، وهو مسلسل يجمع نخبة من نجوم الفن اللبنانيين والسوريين، والمسلسل مأخوذ عن مسلسل تركي يحمل اسم (جرائم صغيرة)، والمسلسل من بطولة (كاريس بشار، ديمة قندلفت، قيس شيخ نجيب، وسامر المصري، وندى أبو فرحات، وريتا حرب)، وإعداد الكتابة لـ (لبنى مشلح) وإعداد السيناريو لـ (مي حايك)
ونفس الشي شاهدناه في المسلسل اللبناني (ع الحلوة والمرة) هو النسخة العربية من المسلسل التركي في (السراء والضراء)، وتدور أحداثه حول (فرح) التي تعمل كموظفة في شركة لتنظيم حفلات الزفاف، وتتعرض لموقف صعب عندما تطلب منها رئيستها بالعمل تنظيم حفل زفاف الرجل الذي تخلى عنها وهرب يوم زفافهما قبل خمس سنوات، فتتحول حياتها لكابوس مريع، المسلسل من إخراج (فكرت قاضي) ومن كتابة (لبنى مشلح وسيناريو وحوار (مي حايك)، وهو من بطولة (دانا مارديني ونيكولا معوض وباميلا الكيك وسلمى المصري وأحمد الأحمد وكارمن لبس).
وأخيرا وليس آخرا في ذات الاتجاه يستوحى مسلسل (الثمن) من مسلسل (ويبقى الحب) الذي عرض عام 2008، من بطولة خالد أرغنش وبيرغوزار كوريل، والذي تدور أحداثه حول أرملة شابة تدعى (شهرزاد) تفقد زوجها في حادث سيارة، فتجد نفسها تصارع الحياة برفقة ابنها الذي اكتشف إصابتة باللوكيميا (سرطان الدم)، وبسبب حالتها المادية الصعبة؛ تتطلب العون من أصدقائها من أجل تأمين المال الكافي لعلاج ابنها، كما تجد (سارة/ أو شهرزاد) نفسها في موقف لايحسد عليه، إذ تقرر اللجوء لمدير الشركة التي تعمل فيها حديثا من أجل استلاف بعض المال، إذ يوافق على طلبها مقابل أن تمضي معه الليلة، توافق على مضض من أجل ابنها، لكن تطلب منه أن يكون الأمر سرًا دون أن تكشف أسباب حاجتها للمال، إذ تمنع الشركة عمل النساء المتزوجات، والمسلسل من بطولة كل من: (باسل خياط، رزان جمال نيقولا معوض، سارة أي كنعان، وفيفيان أنطونيوس) وعدد من النجوم الآخرين،
والسؤال: لماذا تغض شركات الإنتاج العربي وعلى رأسها المصرية (المتحدة للخدمات الإعلامية)، و(المجلس الأعلى للإعلام) الطرف عن ظاهرة اكتسح عمليات الاقتباس من المسلسلات التركية التي تخالف في جوهرها عاداتنا وتقاليدنا، لكنها تنجح في جذب الجماهير العربية على جناح الإثارة والتشويق؟.. هل من عاقل يتصدى لهذا الطوفان الذي يوشك على محو هويتنا الثقافية والفنية؟!.