بقلم الكاتب والمنتج المسرحي الكبير : أحمد الأبياري
معروف لدى عامة الجمهور أن أسرة (الإبياري) هم ثلاثة مؤلفين على الساحة الفنية هم (يسري، وأحمد، ومجدي)، وهم أولاد الكاتب الكوميدي المبدع الراحل (أبوالسعود الإبياري)، وأن الثلاثة يشتغلون بالتأليف والإنتاج المسرحي – وقد رحل شقيقي يسري في مثل هذه الأيام يوم 14 يناير 2016 – إلا أن هناك ابن رابع لم يسلك طريق الكتابة أو الإنتاج وكأنه هو الوحيد الذي أراد أن ينفذ وصية والدنا أبوالسعود الأبياري بأن نبتعد عن هذه المهنة (التأليف والإنتاج) لسبب كان لا يخفيه في صدره، فقد كان يكرر لنا دائما إنها مهنة مرهقة، وشاقة، ومتعبة، وهو كان لا يريد لنا الشقاء.
هذا الابن الرابع هو (محمد الأبياري) شاب قوي، طيب القلب، يعشق خدمة الآخرين قبل خدمة نفسه هو شخصيا، إنه هو الذي يتسلم العرض المسرحي الذي نقوم بإنتاجه سواء أنا أو شقيقي الراحل يسري، منذ يوم افتتاح المسرحية جماهيريا حتى يوم انتهاءها، فهو الذي يضطلع بإدارة الإنتاج والإشراف المالي والإداري للمسرحية، والدور الأكثر أهمية وروعة هو جهده المتواصل كل ليلة لراحة جمهور المسرح الذي جاء ليشاهد المسرحية، فهو كل ليلة في خدمة ألف متفرج تقريبا حضروا لمشاهدة العرض المسرحي.
تجده دائما دؤوب في حل أي مشكلة عارضة قد توثر على سعادة أي متفرج من الألف الحاضرين، مهمة شاقة جدا أكثر شقاء من التأليف ومن إنتاج المسرحية نفسها بل أكثر من ذلك تجده طالع نازل من كواليس المسرح ليحل مشكلة أي ممثل زعلان، والحل الوحيد الذي يملكه (محمد الإبياري) لإرضاء الممثل الزعلان أن يبتسم في وجهه ويربت على كتفه بحنان شديد، ويضحك معه مؤكدا للممثل أنه محبوب لدى الإدارة، والإدارة يسعدها أن تحل مشكلته، ولا يملك الممثل أمام ابتسامته وطيبة (محمد الإبياري) سوى أن يسكت وينسى مشكلته.
ومحمد كان يتميز بهواية فريدة وهى هواية تقديم أي هدية للكبير والصغير من العاملين معه بالمسرح فتراه يوميا يغدق بالهدايا البسيطة لإرضاء الجميع، ولخلق جو من الألفة الدائم بينه وبين المشتغلين بالمسرحية سواء فنان أو إداري أو عامل بسط، وكنت أفكر مع نفسي لماذا أخي محمد إيده سخية مع كل هؤلاء رغم إنه ليس المنتج؟، إلا أن السبب الوحيد هو سعادته من إرضاء جميع العاملين معه بالمسرح – دون مقابل – ولهذا استحوذ (محمد الأبياري) على حب كافة الذين عملوا معنا من فناننين وإداريين وعاملين وخلافه منذ بدأنا إنتاجنا المسرحي عام 1980 .
بل الأكثر دهشة أنه استحوذ على حب الآخرين أيضا من الفرق المسرحية المنافسة لنا، فإذا تصادف وكان لي أي مطلب لدى أي فرقة مسرحية أخرى منافسة لنا، فالمفتاح الوحيد لتنفيذ طلبي هو (محمد الإبياري) محبوب الجميع، وفي إحدى الفترات وصل بي الأمر أن أترك الفرقة المسرحية والإدارة كاملة بالشهور له، ولا أحضر إلى المسرح إلا مرة في الأسبوع أو مرتين على الأكثر، ويحمل (محمد) الفرقة على كتفيه وهو سعيد بذلك، وأنا أيضا.
وفي يوم 4 سبتمبر عام 1994 دخلت مسرحي بالأسكندرية ليلا حيث تعرض مسرحيتي (الجرئ والمليونير) بطولة (سيد زيان وحسن الأسمر) ولم أجد (محمد الأبياري) يجول ويصول بالمسرح كعادته، وحان موعد بدء عرض المسرحية، ولم يحضر محمد، إنها المرة الأولى في حياته التى يتأخر فيها عن موعد عمله، وشعرت بقلبي يدق بشدة وارتجفت وأصبت برعشة في قدمي، خاصة أن (محمد) لم يتأخر يوما واحدا طيلة خمسة عشرة عاما.
وشعرت بضباب معتم يخيم على مدخل المسرح، المكان الذي يهيمن عليه محمد ويملأه حركة ونشاطا وحيوية فائقة، ونظرا لعدم اختراع الهاتف المحمول في هذه الفترة أرسلت أحد مساعديه إلى منزله الذي بجوار المسرح مباشرة على كورنيش الأسكندرية ليستعجله، فجأة وجدت المساعد عاد بسرعة شديدة والعرق يتصبب من جبينه يلقي على بقنبلة ويفجرها في وجهي مرة واحدة قائلا: (مات محمد الإبياري)!،
هكذا فجأة، فهرعت إلى شقته وجدته مسجي على فراشه بملابس الخروج وقد أسلم روحه إلى بارئها، كان بملابسه مستعدا للنزول إلى المسرح في موعده المعتاد، مات منذ أكثر من نصف ساعة فقط هكذا الطبيب الذي كشف عليه.
لم أصدق إنه مات حتى صباح اليوم التالي، يومها أكرمني ربي وقمت بدفنه بالقاهرة، مات شابا عن عمر 44 عاما إلا ثمانية أيام، ولم أكن أدرك أنني أحب هذا الإنسان الطيب حبا جاما إلا بعد موته، فقد شعرت أن نصفي قد مات، وأصبح تحت الأرض، وجلست ليلا وحدي أتذكر طفولتنا أبكي وأضحك لشقاوة (محمد) في صغره، فقد كان أبي (أبوالسعود الإبياري) يستطيع أن يعاقب أي أحد منا بسهولة إذا أخطأ إلا (محمد) فقد كان سريع الجري ولا يستطيع أبي ملاحقته، بل أكثر من ذلك إنه إذا شعر (محمد) أنه سيأخذ علقة من والدي، يجري ويصعد إلى شجرة عالية كانت عندنا بحديقة المنزل، ويظل (محمد) فوق الشجرة بالساعات حتى يجعل أبي يتوسل إليه أن ينزل من فوق الشجرة خوفا عليه، ويهرب محمد من العلقة أمام حنان الأب.
رحم الله شقيقي محمد الأبياري وأسألكم قراءة الفاتحة على روحه الطاهرة الطيبة.