روح (أسامة أنور عكاشة) تحلق في سماء القاهرة (ليلة أمس) !
كتب: محمد حبوشة
لم يكن مجرد كاتب عابر في تاريخنا الفني الحديث، بل صاحب بصمة تخصه وحده دون غيره من كتاب الدراما التلفزيونية، لذا سنظل نذكر شخوصه وأسماء أبطاله اسما اسما، ولعله سيبقى حاضرا وبقوة في ذاكرتنا الحية رغم الغياب، إنه الكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة الذي رسخ بقلمه مفهوم الهوية المصرية في كتاباته ومسلسلاته المهمة، فقد كشف من خلال رؤيته الثاقبة كثير من مناطق الجمال في حياة الأسرة المصرية ورصد برشاقة قلمه صراع الطبقات الاجتماعية المختلفة خاصة في الحارات القديمة والمهن التي كانت وشك الانقراض، والتي عرض سيرها وحواديتها العذبة في أعماله التي ماتزال راسخة في الوجدان المصري.
أطل علينا (عكاشة) ليلة أمس بفيلمه (الباب الأخضر) في إطلالة يصاحبها البهاء والألق الدرامي الفاتن عبر منصة (واتش إت)، ورغم بعد مرور 12 عاما على رحيل الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، الذى يعد أحد أهم المؤلفين وكتاب السيناريو في الدراما المصرية والعربية، وتعتبر أعماله التلفزيونية الأهم والأكثر متابعة في مصر والعالم العربي، وترك (عكاشة) فقد قبل رحيلة إرثا فنيا يضم أبرز كلاسيكات الدراما مثل (ليالى الحلمية، الشهد والدموع، رحلة السيد أبو العلا البشرى، الراية البيضا، ضمير أبلة حكمت، النوة، أرابيسك، زيزينيا) وغيرها من الأعمال الخالدة، إلا أنه بعد هذه السنوات من وفاة الكاتب الكبير، مازالت كتاباته حاضرة ومادة خصبة للأعمال الجديدة.
كان عام 2022 قد شهد خروج عمله الإبداعي مسلسل (راجعين يا هوى) والذي أمسك بها كاتب السيناريو والحوار (محمد سليمان عبد الملك) بخيوط (عكاشة) الذهبية ليعيد لنا روائح زمن الكتابة الدرامية الراقية الجميلة، فقد استطاع أن ينقلنا إلى عالم الراحل في 28 مايو/أيار 2010، من خلال الدراما الإنسانية والاجتماعية (راجعين يا هوى) التي تتناول حياة الأسر المصرية، من خلال عودة الدكتور (بليغ أبو الهنا) إلى وطنه ليفاجأ بتطورات المجتمع في مصر، ويتعامل مع عالمه القديم وأصدقائه، والعائلات بعد تطورات الواقع، يكسو محمد عبد الملك شخصيات عكاشة – المرسومة بدقة وإبداع كعادته – بروحه وروح العشرينيات من القرن الجديد، ويقدم لنا دراما من لحم ودم، على مستوى بناء معماري للقصة وللشخصيات مستمد من روح (عكاشة) الدرامية فائقة الجودة.
وليلة أمس حلقت روح (أسامة أنور عكاشة) في سماء القاهرة بعمل جديد من إبداعه هو فيلم (الباب الأخضر)، الذي عرضته منصة (شاهد)، والفيلم تدور أحداثه خلال فترة التسعينيات فى إطار اجتماعي حول تخلى البشر عن مبادئهم وأخلاقهم، حيث يغوص فيه (عكاشة) كعادته في قلب أحد أهم وأبرز القضايا الإنسانية التي شغلت باله طوال رحلته الطويلة، لكنه هذه المرة ذهب إلى ضفة أخرى من نهر إبداعه الذي لايفنى عبر استشرف المستقبل الغامض في حياة البشرية، فبعد انتشار عمليات الإتجار بالبشر ظهرت موجة جديدة من الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية باسم العلم، وذلك عن خلال التحكم في سلوكيات البشر بمشروع عالمي يستهدف البسطاء من أبناء هذا الوطن، حيث يستخدمهم هذا المشروع كفئران تجارب من خلال حقنهم بمواد تعنى بالتحكم والسيطرة في انفعالات وتصرفات هؤلاء البشر، ومن ثم تسعى لتغير حياتهم وانتماءتهم في محاولة جديدة لإثبات أن العلم يمكن أن يغير حياة الإنسان ويحدث تحولا جوهريا في هويته وانتمائه.
ولأن (عكاشة) لم يكن مهموما بعمل حدوتة درامية، ولكن كان يشغله فقط التعبير عن المواطن المصري، فقد عاش في أماكن كثيرة، ونجح في قراءة ملامح المواطن المصري، والتعبير عنه بدقة شديدة في أعماله الأدبية، وإنتاجه التلفزيوني، فها هو هنا في (الباب الأخضر) ينقلنا إلى أجواء الحسين الصوفية ويخلط بسحريته المعهودة في الكتابة الدرامية بين خرافة العلم وحقيقة الواقع المؤلف من خلال شخصية (عيشة) تلك الفتاة الشابة التي ذهبت للقاهرة بحثا عن زوجها المناضل القديم بعد أن هرب وتركها منذ سنوات كي تسجل اسم مولودها باسم هذا الزوج النذل، وذلك تنفيذا لرغبة شقيقها العائد من الخارج لإثبات نسبه، وتلتقي بالدكتور (شفيع) الذي يعيش مأساة فقدان الابن هو الآخر جراء زواجه من أجنبية تركته وغادرت إلى بلدها مع ابنهما الذي سيفقده للأبد.
مفارقات كثيرة ومذهلة تشهدها أحداث الفيلم عبر التراجيديا الإنسانية التي يجسدها أبطاله في معزوفة درامية تمس آلام الطبقات الفقيرة في مصر، والتي برع فيها (أسامة أنور عكاشة) من خلال أعمال درامية من نسيج الشارع تعبر عن آلام وآمال البسطاء من أبناء مصر الذين يتم استغلال من جانب مافيات الفساد والجشع والمنظمات الدولية التي تسعي لخراب الكون، والذي أدى في نهاية الفيلم إلى مصير مجهول لـ (عيشة) بعد قتل متعمد للدكتور (شفيع) الذي قاوم فساد الأخلاق وحارب المشروع التدميري لعصابة تخصصت في اختراق حائط الإنسانية باسم تخليص البشر من آلام الحروب على جناح تغيير الهوية والسيطرة والتحكم في تغيير نمط حياتهم على قدر بساطتها وفطريتها.
جدير بالذكر أن فيلم (الباب الأخضر) قصة وسيناريو وحوار (اسامة أنور عكاشة)، وتصوير وإخراج رؤوف عبد العزيز، وبطولة (إياد نصار، سهر الصايغ، خالد الصاوي، محمود عبدالمغني، بيومي فؤاد، أحمد فؤاد سليم، حمزة العيلي، عابد عناني، إسلام حافظ، سما ابراهيم، لطيفة فهمى)، وعدد آخر من الفنانين الذين تباروا في الأداء بعذوبة تستطيع إنقاذنا من أفلام الأكشن الساذجة والكوميديا البلهاء والرومانسية الفاترة في زمننا الحالي الذي يموج بكثير من المتناقضات.