بقلم : بهاء الدين يوسف
تابعت خلال اليومين الماضيين ما تردد عن نية أجهزة في الدولة المصرية هدم منزل الأديب الكبير عباس محمود العقاد في أسوان، ثم مسارعة بعض وسائل الإعلام المحلية لنفي الأمر دون أن يتضمن أي خبر من الأخبار التي تنفي نية الهدم أي تصريح رسمي من مسؤول في الدولة يؤكد كذب ما قيل.
للصدفة قرأت في وقت متزامن أيضا تصريحا لحفيد د. طه حسين يشكو فيه من تجاهل دار الكتب والوثائق المصرية التابعة لوزارة الثقافة المصرية إعادة نشر ما يقارب 1500 مقال كتبها عميد الأدب العربي على مدى سنوات، أو جمعها في كتاب خصوصا في ظل الإقبال على طلبها.
ذكرني هذا بما حدث قبل فترة بسيطة حين تم هدم مقابر المماليك التي تضم رفات مشاهير مصريين وتعتبر من بين الأماكن الأثرية بالنظر إلى قيمة المدفونين فيها من جهة وإلى كونها قد مر على بنائها أكثر من مائة عام ما يمنحها صفة الأثرية بموجب قواعد منظمة اليونسكو لإنشاء محور مروري جديد.
القاسم المشترك بين كل ما سبق رغم وجود تباين في دقة الأنباء المتداولة بشأن كل خبر هو حالة الاستسهال المقلقة لدى البعض تجاه التفريط ليس فقط في تراث مصر وإنما في قوتها الناعمة التي يشكل التراث جزءا أصيلا منها، وهو أمر يدعو للدهشة خصوصا في ظل اهتمام رئيس الدولة نفسها بالحفاظ على التراث والآثار، وهو أيضا اهتمام انعكس بوضوح في أكثر من مشروع منها (المتحف الكبير ومتحف الحضارات) الذي تم نقل المومياوات إليه في موكب مهيب كان حديث العالم في وقته.
المفارقة أنه في الوقت الذي نفرط فيه في تراثنا القديم والحديث ونتعامل فيه بإهمال مؤسف مع رموز ثقافية وسياسية وفنية ورياضية لها من القيمة خارج مصر أكثر بكثير مما تحظى به داخلها، كانت البرازيل تجهز مقبرة فريدة من نوعها للاعب الأشهر في تاريخها (بيليه) الذي وافته المنية قبل أيام، حيث لم تكتف الدولة هناك بترتيب جنازة رسمية وشعبية مهيبة له شارك فيها مشاهير من جميع أنحاء العالم ونقلتها الآلاف من وسائل الإعلام حول العالم، لكنها قررت وخلال فترة وجيزة أن تحول ضريحه الى مزار سياحي عالمي فبنت أعلى مقبرة عمودية في العالم تم تسجيلها في موسوعة جينيس للأرقام القياسية تتكون من 14 طابقا سيرقد جثمان بيليه في الطابق الأول منه ضريح مهيب أشبه بملعب كرة قدم مع عشب اصطناعي وصور للاعب في مراحل حياته المختلفة، ما يعني أنهم صنعوا حدثا سياحيا وتراثيا من لا شيء بينما يجتهد البعض هنا في مصر في محو أشياء قيمة عديدة نملكها باسم الحداثة.
إذا كان (هؤلاء البعض) لا يعرفون قيمة ما يقدمون على التفريط فيه بالهدم أحيانا والتجاهل في أوقات أخرى فتلك مصيبة كونها تعني ببساطة أن قوتنا الناعمة التي منحت مصر مكانتها الفريدة بين دول العالم، كما خولت لها أن تصبح دولة قائدة في منطقتها في أيدي من لا يعرفون قيمتها، وبالتالي من يدري على أي من تراث مصر سيكون الدور المقبل!.. أما إذا كانوا يعرفون قيمة ما يفرطون فيه فتكون المصيبة أعظم.