بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
إن إعادة النظر في القوانين التي تحكم العملية الإنتاجية أحد مطالب المسرحيين الهامة في ( الحوار الوطنى ) ، فهذه القوانين تم وضعها بشكل عام لنواحى الإنتاج المختلفة سواء الصناعى أو التجارى لم تراع خصوصية العملية الفنية و ضروراتها ، بل إن بعض هذه القوانين نظن أنها ستعطل إنتاج الأعمال الفنية بالكامل في جهات الإنتاج الحكومية خاصة في وزارة الثقافة ، و هناك شواهد و أمثلة كثيرة .
أولى تلك الأمثلة هى قانون القيمة المضافة الذى صدر عام 2016 و ينص على فرض ضريبة على معظم توريدات السلع والخدمات التي يتم شراؤها وبيعها ، و المستهلك النهائي هو من يتحمل تكلفة هذه الضريبة في حين يقوم المنتج بتحصيلها واحتسابها وسدادها للحكومة.
و دونا عن كل الضرائب التي تفرضها الدولة تأتى هذه الضريبة التي ينص القانون الخاص بها على تولى المبدع تحصيلها من جهة الإنتاج التى يتعامل معها و يقوم بتوريدها للحكومة، في حين أن القانون لم يلزم جهات الإنتاج بضرورة تسديدها للمبدع، و إنما ترك الأمر بين المبدع و جهة الإنتاج ، لذا عليه أن يسددها لو امتنعت جهة الإنتاج عن ذلك و إلا تعرض لعقوبة التهرب من الضرائب التي تصل إلى السجن.
و مؤخرا تقدم الفنان الكبير يحيى الفخرانى إلى مجلس الشيوخ – بصفته عضوا فيه – بمشروع تعديل للقانون ينص على إلزام جهة الإنتاج بسداد الضريبة للحكومة مباشرة، فالمبدع سواء كان ممثلا أو مطربا أو مخرجا .. إلخ ، لا يملك دفاتر منتظمة أو سجلات تمكنه من متابعة هذه الضريبة التي تسدد شهريا و ليس سنويا ، كما لا يملك وسيلة قانونية لإجبار شركات الإنتاج على دفعها له لتوريدها للحكومة ، و بالتالى وجود الفنان المبدع وسيطا بين المنتج و الحكومة لا فائدة له و عليها تحصيلها من المنتج مباشرة.
الأمر المضحك و المبكى في نفس الوقت أن وزارة المالية التي فرضت علينا القانون تمتنع عن سدادها ، فعندما تتعاقد – كفنان – مع وزارة الثقافة يتم خصم الضرائب كلها من المنبع ، أي تقوم الجهة المنتجة بخصم كافة الضرائب التي تصل إلى 23 % (على أحسن تقدير فهناك بعض الجهات تخصم 27 % ) من قيمة التعاقد قبل أن تصل إلى يد الفنان و تقوم بتوريدها لمصلحة الضرائب ، و لكنها تمتنع عن دفع قيمة ضريبة القيمة المضافة و هو 14 % و التي يفترض القانون أن يحصلها الفنان و يسددها للضرائب بشكل شهرى ، و بعد ذلك تسجنه الحكومة لأنها لم تسدد الضريبة للفنان ثم تستلمها منه مرة أخرى ، و أمام هذا العبث لا يسع المبدع سوى سدادها ليصل مجموع ما يخصم منه ضرائبيا 37 % ( هذا عدا الدمغات و الاستقطاعات الأخرى ) ويسألونك بعد هذا لماذا يهرب الجميع من التعامل مع مسرح القطاع العام ؟
أما الأمر الثانى فهو قرار الدكتور رئيس مجلس الوزراء و منشور وزير المالية الذى ينص على أن ( يلتزم الجهاز الإدارى للدولة بالتعامل بالفاتورة الإلكترونية و أنه يحظر التعاقد مع أى من الموردين أو المقاولين أو مقدمى الخدمات أيا كان نوعها إلا إذا كان مسجلا فى منظومة الفاتورة الإلكترونية )، و هو قرار تطبقه حاليا الجهات الإنتاجية الحكومية على المهن الحرة من الفنانين و الكتاب و الموسيقيين و غيرهم ، برغم أنهم ليسوا موردين و لا مقاولين و لا مقدمى خدمات بل هم مبدعون يخضعون لضرائب المهن الحرة غير التجارية ، و لا يملكون شركات لها أختام و توقيع رسمى إلكترونى حتى يمكنهم التسجيل فى نظام الفاتورة الإلكترونية !!
و أيا كانت اعتراضاتنا على هذا القرار – و بالمناسبة هى اعتراضات لها وجاهتها ولم يسمع لها أحد – فهذا القرار يهدد جهازا ضخما مثل الهيئة العامة لقصور الثقافة بالتوقف عن النشاط ، و ما أدراك ما معنى هذا التوقف ؟ .. بمنتهى البساطة إنك تفتح الباب لكل خفافيش الظلام ، و يصبح بعدها الحديث عن رؤية مصر 2030 في الثقافة مجرد لغو ، و الكلام عن تنمية البشر و بناء الإنسان مجرد سفسطة.
انظروا معى إلى واقع النشاط الفني للأقاليم و الذى تقوم به هيئة قصور الثقافة منذ نشأتها تحت مسمى الجامعة الشعبية في النصف الأول من القرن الماضى و حتى الآن، إنه أقل من طموحات الجميع – بما فيها مسئوليها – و اليوم يهدد هذا النشاط على تواضعه بالتوقف بسبب منشور من وزارة المالية لجميع مراقبى الحسابات بكل المواقع بضرورة أن يقوم كل المتعاملين مع الهيئة بالتسجيل الضريبى ، و هو أمر تصل تكلفته على المواطن إلى 1600 جنيه كل عام .
هل تخيل صاحب القرار عاملا زراعيا – من أصحاب المهن المؤقتة – يهوى أيا من الفنون ( تمثيل / غناء / فنون شعبية ) و يمارسه في قصر الثقافة منذ طفولته ، أن يصبح مطالبا بدفع 1600 جنيه كل عام من أجل ممارسة هوايته و التي لا يتقاضى عنها طوال العام سوى أقل من نصف هذا المبلغ مخصوما منه الضرائب و الدمغات؟، و أن يسدد عن هذا المبلغ الزهيد ضريبة قيمة مضافة يكتب بها إقرارا شهريا إلى جانب أن عليه كتابة إقرارا ضريبيا إلكترونيا كل عام !!
هل يتخيل مصدر هذا القرار مصير كل فرق الأطفال في جميع ربوع مصر التي تمارس نشاطها من خلال قصور الثقافة ، و التي يتقاضى أهليهم ما لا يغطى حتى ثمن المواصلات ؟ .. كيف سيتم التعامل مع أهل هذه الأطفال ؟، هل مطالب من كل أب ان يسجل ابنه في المنظومة الضريبية و يتحمل مسئولية إدارة أعماله كقاصر؟، أم سيفضل في تلك الحالة أن يبقيه في منزله و يبتعد عن وجع الدماغ ، و نترك الأطفال نهبا لـ (التك توك و اليوتيوب و قنوات بير السلم؟).
إن زيادة حصيلة الدولة من الضرائب أمر لا نعترض عليه، و لكن السؤال: هل تطبيق تلك المنظومة على المبدعين المتعاملين مع الدولة أو مع الهواة في الأقاليم هو ما سيضمن القضاء على الاقتصاد الأسود ( الاقتصاد الموازى لاقتصاد الدولة )، و الذى يقدر حجمه بحوالى 2 تريليون جنيه ، و تقدر الضرائب المستحقة عنه بأكثر من 330 مليار جنيه تضيع بين مصانع بير السلم و الأسواق العشوائية و الباعة الجائلين والمهربين ، و صفحات البيع على وسائل التواصل الاجتماعى؟
و إذا أصرت وزارة المالية على تطبيق هذه القوانين على جهات الإنتاج فعليها أولا أن تجيب على تلك الأسئلة : كم تكلفنا الحرب على الإرهاب حاليا؟، و كم ستبلغ تكلفتها إذا توقف نشاط هيئة قصور الثقافة؟، و كيف نسعى لبناء الإنسان في ظل كل هذه العراقيل؟، و كيف نتحدث عن العدالة الثقافية؟، و عن أي انتماء للأجيال الجديدة نتحدث؟