بقلم : محمد شمروخ
(انتحر الرجل ……………………)!
هذا لم يرد في مسلسل (قاسم أمين) الذي عرض في 2002، بل هو أول تعلق من سعد زغلول كتبه في مذكراته بعد سماعه النبأ المؤلم بموت الفجاءة الذي اختطف في ضربة قدرية مباغتة صديق عمره (قاسم أمين).
فما الذي دعا سعدا أن يجزم بموت قاسم انتحارا قبل أن يعرف أى شيء عن ظروف أو ملابسات الوفاة الفجائية؟!
لايمكن أن تكون مجرد المفاجأة تجعله يعتقد هذا لدرجة أنه سطره في مذكراته، فبالتأكيد أن ما كتبه سعد لم يقع في اللحظة التالية لسماعه النعي بنبأ صديق العمر، أى أنه مر من الوقت ما جعل سعد زغلول – وهو يومئذ من كبار رجال الحكم وزيرا ملء السمع والبصر- يقر بمثل هذا الاعتقاد الجازم.
قبل أن أجيب عن هذا السؤال اسمح لى أولا أطرح سؤالا أسمع هسيسه الآن في جنبات ذهنك:
ما الذي دعانى لمثل هذا المقال عن قاسم أمين ووفاته إن كانت موتا طبيعيا أم القتل انتحارا؟!
الأمر ليس كما يردد البعض بتأكيد الانتحار، للطعن في قاسم أمين كمنتحر أى كافر نعمة، وكذلك طعنا في فكره وشخصه وعقيدته هو ومن اتبعوه وساروا على نهجه وكانوا دعاته، طعنا لا يخفى على أحد – وتلك الأحداث لم أشاهدها بالطبع في عمل درامي – لكنى تذكرت ما كتبه سعد زغلول عن انتحار قاسم أمين، مع إثارة الحديث حاليا عن قانون الأحوال الشخصية المزمع إصداره قريبا في مصر، فمع أى مطالبات أو اقتراحات بشأن (حقوق المرأة) لابد أن يطل شبح قاسم أمين في الخلفية أو يجلس بشحمه ولحمه وكأنه بعث من جديد في صدارة المشهد.
ولكن ليس المهم هنا ما ذكره سعد، بقدر أهمية ما ذكره الطبيب الذي حضر عقب الوفاة، فقد جاء في مذكرات سعد زغلول بخصوص هذا الحدث، تلميح من الطبيب إلى الضغط الذي عاناه قاسم من جراء دخولة تجربة عاطفية مع سيدة كانت معروفة بجمالها الأخاذ شكلا وروحا وصوتا، حتى أنها كانت تغنى في حفلات خاصة في جلسات تحضرها نساء الطبقة الراقية في القصور الفاخرة.
فى ذلك الوقت كان قاسمنا يعانى ضغطا في حباته مع أسرته، فقد كانت زوجته ذات شخصية قوية على عادة السيدات ذوات الأصول التركية، وكانت رغم استقرار الحياة العائلية ونجاحها كربة منزل، كانت لاتفتأ تعارض زوجها في كثير من أفكاره، وأحيانا تصرفاته الناتجة عن كرمه الزائد مع بعض أقاربه إلى درجة أنها شكت إلى السيدة صفية زغلول من قيامه بإنفاق مبلغ من ريع أملاكها الخاصة من جملة ما يفيض به قاسم على بعض أقاربه من الذين يلجأون إليه عند الملمات، كما معروف عنها أنها لم تقتنع بدعوة زوجها بنزع البرقع!
الخلاصة كما يذكر كثيرون ومنهم الدكتور ماهر حسن فهمى فى كتابه الذي ألفه عن حياة محرر المرأة بعنوان (قاسم أمين) أن صاحبنا لم يكن سعيدا في حياته الزوجية وإن كانت حياة مثالية – بحسب مسلسله الشهير – لكن فيما يبدو أن السيدة الجميلة (وسيلة) التى أهاجت مشاعر قاسم أمين وقلبت كيانه رأسل على عقب، وهو الرجل الخلوق المستقيم السلوك الذي رفض حياة اللهو والمجون ما بين باريس حيث دراسته والقاهره حيث مستقر حياته، بجانب أنه كان وسيما مهيب الطلعة ذا شخصية حالمة وصاحب مواقف وآراء جريئة، لكن ليست مشاعره القلبية فقط.
فأزمة (قاسم) الحقيقية مع معشوقته التى عرف بخبرها بعض أصدقائه، هى أزمة فكرية متعلقة بمذهبه الذي دعا إليه، فهو الذى يدعو إلى ضبط تعدد الزوجات في عصر كان التعدد فيه شيئا مباحا بل ومفضلا، لا يجادل في ذلك أحد، ها هو يجد نفسه مشغولا بامرأة أخرى؟ّ!
فكيف الحال إذن؟ّ!
هل يتخلى (قاسم) عن مبادئه العقلية من أجل ميول قلبية؟!
(لكنه الهوى.. وآه منه الهوى آه)!
وما أضيع العمر عندما يثور النزاع ما بين القلب والعقل؟!، ساعتها سيحدث تمزق حقيقي وفقدان للتوازن ولو كان أبوزيد الهلالى فلن يفلح.. أبو زيد نفسه وقع أسير حب (عالية) وقبله صار عنتر عبدا لعيون عبلة!.
فيما يبدو أن هذا الضغط الشديد الذي تعرض له قاسم، كان السبب الذى أدى لانهيار مقاومته وسقوطه صريعا!.
هكذا كان يلمح الطبيب كما ذكر سعد زغلول، وربما قصد سعد بالانتحار، هذه الحالة المضنية التى أوصل صديقه إليها نفسه، فلم يثبت أن قاسما تناول شيئا أو صدر منه أو ظهر على جثمانه ما يفيد صراحة أو احتمالا بأنه أنهى حياته بطريقة من طرق الانتحار التقليدية.
النتيجة أن قاسم أمين مات تحت ضغوط شديدة، إن شئت كأثر مباشر لضغط العشق الذي يتمزق بسببه ما بين ضميره كزوج وعاطفته كعاشق لغير زوجته!.
وإن شئت أن تحسبه واقعا تحت سطوة المفكر صاحب الدعوة التى أحدثت دويا عظيما إثر انفجار مهول مع آخر أعوام القرن التاسع عشر بصدور الطبعة الأولى من كتابه (تحرير المرأة) وشغلت جميع عقود القرن العشرين وتجاوزته إلى القرن الواحد والعشرين، حتى إذا ما طالب أحد بتعديل قانون الأحوال الشخصية بإضافة مواد أو تعديلها أو إلغائها، ذكر اسم محرر المرأة!.
وإن شئت فاحسبه عاشقا هائما قتله ضمير الزوج العاقل!
وهكذا تبدو سخرية القدر، صاحب تحرير المرأة، يجد نفسه في ورطة كبرى تواكبت مع نهاية حياته وهو في قمة النضج الرجولى لم يكمل الخامسة والأربعين من عمره بعد!
هل مازالت الإجابة غامضة؟!
أرجو يا أعزائي الذين يشحذون الآن شفراتهم للاستعداد للحوار المجتمعى حول قانون الأحوال الشخصية – الذي يدور حاليا على الفضائيات – لا أطالبكم بأن تجوروا على المرأة، بل قاتلوا ما استطعتم من أجل حصولها على حقوقها…….
لكن هناك معضلة!
وهى أن موت قاسم أمين محررالمرأة وفي بيته امرأة كانت ترفض أفكاره التحررية، بينما هناك امرأة أخرى تنتظر منه تحديد مصيرها، كان نتيجة مرتقبة ولا يبدو غريبا، على غرار ما يحدث في بعض مسلسلات هذا الزمان!
فذلك الوضع هو ما يأباه عقل من كان ضد تعدد الزوجات ويدعو صراحة (لضبطه) ولا نخدع أنفسنا بالبحث عن دلالة أخرى لكلمة ضبط إلا المنع أو العرقلة!
وتلك هى أزمة قانون الأحوال الشخصية الحقيقية في هذا الأمر!
لكن الحقيقة التى يتجاهلها الجميع هى أنه في (التعدد) لا يقف الرجل خصما للمرأة، بل التى تقف خصيمة للمرأة هى امرأة أخى تحت وصف (ضرة)،
فالقضية في حقيقتها نزاع ما بين المرأة والمرأة، فكلتاهما تريد من الرجل أن يتخذ موقفا ما بينهما.
ولكن لأمر ما يرسى المطالبون بالتشريع مصطلح (حقوق المرأة) كحق فقط للزوجة الأولى، وكأن الثانية ليست امرأة!.
غير أنها أى كانت كواحدة من ثلاث (زوجة علنية أو سرية أو عشيقة) فهى عدوة للمرأة، مع أنها امرأة مثلها، ولابد لها ممن يبحث عن حقوقها هى الأخرى!
(بس مين يقدر؟!
ونحن نعلم جميعا أن ثقافة عصر (قاسم أمين) كانت يمكن أن تتحمل وجود زوجة أخرى أو حتى خليلة سرية، خاصة في الطبقة الارستقراطية التى ينتمى لها قاسم، لكن في ثقافة عصرنا الحالى لا احتمال لأى من الوجهتين ولا يستطيع رجل راضع من لبن أمه، أن يبحث عن حق المرأة الأخرى التى تبدو كأنها (جربة) بالتعبير الشعبي، تماما كما تم تجسيده دراميا.
ملحوظة جانبية:
(بمراجعة حالات لكثيرات من ناشطات حقوق المرأة، تشير معلومات مؤكدة أن من بينهن سيدات كن أو أصبحن زوجات على ضرة، وهناك قائمة متداولة بذلك، بالأسماء وتواريخ الزواج!.. تمت الملحوظة)
نهايته.. انتحر قاسم أمين أو مات تحت ضغط ما، فالقضية لن يحلها قانون يحول رغبة الرجل في الزواج من أخرى إلى سلوك سري سوف يبرر له أمام حبيبته الأخرى أن الأمر أمر (الحكومة).
(والحكومة منعت الزواج الثانى ولازم نقضيها – يا حبيبتى – إما على ورقة عرفي أو صداقة على نموذج غربي).
وطبعا لا علاقة لمصطلح (الحكومة) كتعبيرذى دلالة ساخرة على الزوجة في البيت، بـ (الحكومة) الواقعية وهى التى يقع على عاتقها عرض القانون على المجلس النيابى.
(ده بعد الحوار المجتمعى طبعا)..
وفي النهاية الحكومة هى الحكومة والرجل هو الرجل.
لكن من يراهنى على أن (ضبط التعدد) بأى صورة سيصير حتما في مصلحة الرجل لأنه سيتيح له حجة مقبولة، لأنه لن يعارض أوامر (الحكومة؟!).
والله يرحمك يا قاسم يا أمين!