بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كم يسعدنا كمسرحيين أن نشاهد تظاهرة مسرحية ناجحة و متألقة ، تم تنظيمها بدقة و احترافية عالية لتحقق أهدافها الفنية و الثقافية ، و لم تتعال على جمهورها الطبيعى – و هم أهل البلد المضيف – فكانت للناس جميعا و لم تكن للنخبة أو لضيوف المهرجان فقط ، فهذا هو النجاح الحقيقى ، و لهذا كنت سعيدا بمشاهدة عروض الدورة السادسة من مهرجان المسرح الصحراوى – الذى أقامته دائرة الثقافة بإمارة الشارقة خلال الأسبوع الماضى – بدعوة كريمة من الأستاذ أحمد أبو رحيمة مدير إدارة المسرح و مدير المهرجان ، و يشكل هذا المهرجان حلقة في منظومة الأنشطة التي تنظمها دائرة الثقافة بالشارقة والهادفة إلى تعزيز مكانة فن المسرح وترسيخ تداخلاته مع الناس والمجتمع في كل زمان ومكان – كما يقول الموقع الرسمي للمهرجان – سعيا إلى استكشاف واستظهار الصلات الكائنة والممكنة بين أشكال التعبير الأدائي والسردي التي تعمر الصحراء وفن المسرح.
وترتكز فكرة هذه التظاهرة التي تمزج الفني والاجتماعي والفلكلوري على احتفاء وإيمان عميق بغنى وثراء الثقافة الصحراوية ، هذه الثقافة الحيوية التي لطالما ألهمت أسفار الرحال وقصص الرواة وألوان الرّسامين بفضائها الواسع وامتداداتها اللامحدودة برمالها وكثبانها ووديانها وعمارتها وناسها وعاداتهم وتقاليدهم في شتى أحوالهم بين الاستقرار والانتقال ، و لذا تتمحور عروض المهرجان في بنيتها على الحكاية والشعر والأداء، وعلى أساليب متعددة من التعبيرات الفنية التي تختزنها الذاكرة الجمالية للصحراء، ويُراد لهذه العروض أن تعكس الملامح المتنوعة للثقافة الصحراوية الممتدة طولاً وعرضاً في المشرق والمغرب من جغرافية الوطن العربي.
و كانت ولادة ( مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي ) في عام 2015 بمثابة فكرة مفاجئة لكثير من المسرحيين والمتابعين ، الذين تساءل بعضهم عن إمكانات نجاح هذه التظاهرة في ظل وجود مهرجانات مسرحية كثيرة في الشارقة ، وكانت المفاجأة نجاح هذا المهرجان منذ دورته الأولى بما عرضه من مسرحيات في فضاء شاسع يعكس تنوع البيئات الصحراوية العربية والخليجية، حيث سعى المهرجان إلى استكشاف مضامين هذه البيئات من خلال أشكال التعبير الأدائي والسردي ( كما كتب البعض )
و بعيدا عن التنظيرات المعقدة و الاختلافات الكثيرة حول المصطلحات و معانيها ، و هل هو مسرح صحراوى أم مسرح في الصحراء ؟ ، فالمؤكد أن المهرجان يمكن أن ندرجه – من ناحية الشكل – في إطار بحث المسرحيين عن فضاءات بديلة بعيدا عن مسرح العلبة الإيطالية كتجارب كثيرة تتابعت ، بعضها يتشابه و البعض يختلف مثل مسرح المقهى ، و مسرح الجرن ، و مسرح الشارع ..إلخ.
و يمكن أن ينتمى – من ناحية المحتوى – إلى مسرحة التراث و الاهتمام بالصيغ الفلكلورية في السرد و الأداء ، و بذلك يجمع رافدين من روافد تأسيس مسرح مغاير له خصوصية عربية شكلا و مضمونا ، أما اختلافات السادة النقاد حول المصطلح ومعناه ، و هل ينطبق على العروض التي قدمت أم لا ، و كل هذا الجدل الذى يدور في الندوات فهو تنظير يسبق الواقع – من وجهة نظرى – فسوف تفرض طبيعة المكان و المحتوى المقدم على مر الدورات القادمة مفهوما محددا للمصطلح نابعا من التجربة نفسها و ليس مفروضا عليها من خارجها ، و لكن بعض السادة النقاد ينسون ان تنظير ارسطو للمسرح – على سبيل المثال – أتى بعد رسوخ ذلك الفن بسنوات طوال و ليس قبل؟
الأهم من وجهة نظرى بعيدا عن مشاحنات النقد و النقاد هو الاقبال الجماهيرى على عروض المهرجان برغم مباريات كأس العالم ، فلقد اختارت إدارة المهرجان ان تقيمه بمنطقة الكهيف الصحراوية و هى إحدى المناطق التي تلجأ لها الأسر في فسحتها ، فتتجه لتلك المنطقة بسياراتها في المساء لتقيم مخيماتها الصغيرة حاملة معها طعامها و معدات الشواء ( و هي عادة خليجية اصيلة تسمى الخروج الى البر ) فلجأت إدارة المهرجان – في ذكاء شديد – إلى اختيار هذا المكان و أن تجمع فيه عدة أنشطة : فهناك العروض المسرحية التي يشاهدها الجمهور فى فضاء تحيطه التلال والخيام ، و في ذلك الفضاء الشاسع اجتمعت عروض المسرح مع عروض فرق الأغانى الفولكلورية الإماراتية ، و أيضا موائد شواء يومية بعد العروض ، و أحيانا مسابقات للأطعمة المحلية ، كل ذلك في منطقة تمتلئ بالزائرين الذين خرجوا الى الصحراء بحثا عن متنفس ، فجاء اليهم المسرح يحتضن أنشطة خرجوا من أجلها ، أما ضيوف المهرجان فقد ( تسامروا ) من خلال ندوة فكرية عقدت في نفس المكان لتبحث محورين أساسيين هما : هل يمكن النظر الى المسرح الصحراوى بصفته تجسيدا عمليا لمفاهيم الفرجة العربية ؟ ، و كيف تتصل أو تنفصل تجربة المسرح الصحراوى مع أفكار تأصيل المسرح العربى ؟ إلى جانب ندوة تتلو كل عرض من عروض المهرجان.
و قد تميز المهرجان بجرعة ثقافية تذخر بالتنوع فلقد قدمت عروض من بيئات متعددة و ثقافات مختلفة – و إن جمعت بينها الصحراء – فهناك عروض في هذه الدورة من الإمارات و مصر و سوريا و المغرب و موريتانيا كلها صنعت خصيصا للمهرجان، و جمعت أشكالا متعددة من أشكال التعبير مابين السرد و الأداء ( مابين الحكى و التمثيل ) و كلها قامت على ما تختزنه الثقافة الصحراوية من ملاحم و سرديات وأشعار و حواديت تراثية ، في محاولة لاستغلال ظواهر الفرجة الشعبية .
و يبقى أن نتوجه بالتحية لكل من شارك في إقامة و ترتيب و تنظيم هذا المهرجان ، و الشكر الأكبر لصاحب فكرة المهرجان و المساند الأول له الدكتور سلطان بن محمد القاسمى حاكم الشارقة – و رجل المسرح و عاشقه – الذى نجح في أن يجعل من إمارته واحة للمسرح و المسرحيين من كافة اقطار الوطن العربى ، من خلال نشاط مسرحى متنوع – يصعب حصره – مابين مهرجانات محلية و عربية و مسابقات كثيرة في التأليف و البحوث المسرحية إلى جانب جائزة كبرى لأفضل عرض مسرحى عربى ، و أنشأ رابطة للمسرحيين العرب تعنى بشئونهم الاجتماعية و الإنسانية ، ساعيا إلى توحد إنسانى ، يستطيع الإنسان من خلاله أن يغلف العالم بالمحبة و السلام من خلال السحر الكامن في عوالم المسرح.