كتب : أحمد السماحي
الفن كالخمر يتفاعل مع الزمن بطريقة خاصة، فأما أن يجعله الزمن معتقا وفاخرا يزداد قيمة وتأثير كلما مر عليه الوقت، وإما أن يجعله حامض مؤذي لا قيمة له ولا معنى يتعب ويصيب من يشربه بالسم القاتل، وفي اعتقادي الشخصي أن الجريمة التى ارتكبها محمد الغيطي ومحمد فاضل تحت اسم (الضاحك الباكي) أصبحت حامض مؤذي مضر للصحة العامة وبالذائقة السليمة للجمهور، والكارثة أنهما بهذه الجريمة منعا أجيال وأجيال قادمة من رؤية حياة أحد عمالقة الفن الأوائل الذين كتبوا أسمائهم بحروف من نور في سجل الفن المصري والعربي، لأنه ليس من المعقول أن تجازف شركة إنتاج خلال السنوات القادمة بإنتاج عمل ثاني عن (نجيب الريحاني) للأسف!.
بعد نشر ملاحظاتي النقدية أمس على مسلسل (الضاحك الباكي) تأليف محمد الغيطي، إخراج محمد فاضل، والذي يحكي قصة العملاق نجيب الريحاني، وصلتني عشرات الرسائل على (الواتس) تؤيدني فيما كتبته، كما وصلتني أيضا أكثر من رسالة تتهمني بالقسوة على كاتب العمل الزميل (محمد الغيطي) ويجوز أن يكون كلام هؤلاء صحيحا، لكن الحقيقة إنني بعد مشاهدتي لهذا العمل شعرت بالإحباط الشديد المصحوب بشيئ من الغيظ.
والكثير من التساؤلات والإحباط سببه هذه الأسماء التى تعودنا احترامها، واحترام أعمالها – محمد فاضل وفردوس عبدالحميد – فما من شك في أن المبدع (محمد فاضل) مخرج ذكي وأكثر ما يميز ذكائه الفني هو اختياره للموضوعات التى يخرجها، وحسن توقيتها ثم البراعة في توزيع أدوارها، لذلك كانت دهشتي كبيرة لدي رؤيتي لمسلسل (الضاحك الباكي)، ففيه كم كبير من الفنانات لا تعرف من هن؟ ولا من فرضهن؟، ولا لماذا يمثلن أصلا؟!، والكارثة أن بعضهن يبدو إنهن مسنودات من شخص ما لأسباب لا يعرفها إلا هذا الشخص لهذا تم مد وتطويل أدوارهن!.
الخطأ الأول:
بعيدا عن المجاملات الفجة الخاصة بهؤلاء الهاويات! تحدثنا أمس عن بعض الأخطاء التاريخية القاتلة في المسلسل، واليوم نواصل سرد باقي الأخطاء، أول الأخطاء جاءت في الحلقة الثانية حيث شاهدنا (عزيز عيد ونجيب الريحاني) وهم في سن الطفولة أو الصبا المبكر في مدرسة (الفرير) وهذا كان خاطئا فادحا لأن الريحاني أصغر من المخرج (عزيز عيد) بخمس سنوات، فالريحاني مواليد 1889، بينما (عزيز عيد) مواليد 1884، والخطأ الأكبر من هذا أن (عزيز عيد) لم يدخل أصلا مدرسة (الفرير) حيث سافر في طفولته من كفر الشيخ إلى بيروت، ولم يقضي طفولته وصباه في القاهرة! كما جاء في حوار لعزيز عيد في مجلة (الصباح) عام 1934، والحقيقة أن (نجيب الريحاني) قابل (عزيز عيد) لأول مرة كما ذكر في مذكراته في بنك التسليف وهما في سن الشباب.
الخطأ الثاني:
جاء في نفس الحلقة الثانية حيث شاهدنا مدرسة (الفرير) والتلاميذ فى ملابس تاريخية يؤدون مسرحية (ماكبث) لشكسبير، والمدير مع مشرف المسرح يتحدثون عن موهبة (الريحاني)، وقام الريحاني وزملائه بتمثيل مشهد كامل من مسرحية (ماكبث)، والخطأ القاتل هنا أن مدارس (الفرير) الفرنسية – كانت وأعتقد مازالت – تتميز بالعنصرية، ولا يمكن أن تسمح لطلابها أن يقدموا أعمال لكتاب إنجليز، ولكنها تفرض عليهم تقديم أعمال كتاب فرنسيين مثل (موليير، وجان راسين) وغيرهما.
الخطأ الثالث:
في الحلقة الخامسة شاهدنا (نجيب الريحاني) يجلس مع المعلم (فتيحة) البقال، في أحد أماكن السهر عام 1908 والمطرب يغني (أوعى تكلمني بابا جايا ورايا)، ويبدو أن (محمد الغيطي) يضرب الودع ويشوف المستخبي والقادم من الأعمال الغنائية، حيث أن هذه الأغنية لحنها الشيخ زكريا أحمد، لأول مرة وحققت شهرة كبيرة عام 1925!، أي أنها أذيعت قبل موعدها بـ 17 عاما.
الخطأ الرابع:
رأينا في الحلقة السابعة وفي المشهد رقم 20 يقابل (ستيفان روستي) كلا من (محمد عبدالقدوس، وعزيز عيد) ويدور حوار بينهم ويقول فيها (ستيفان) الآتي : (أنا رُحت أزور الماما فى روما لقيتها تابت م الرقص، وبتشحت م الكنيسة، والبابا جالس في البيت معاها سكران ليل ونهار قلت أجى مصر أم الدنيا أشوف حالى)، ومن المعروف أن والد (ستيفان) انفصل عن والدته قبل ولادته!.
الخطأ الخامس:
ذكر في إحدى الحلقات أن الفنان محمد عبدالقدوس كان في المجموعة الأولى من نجوم فرقة (عزيز عيد) وطبعا المعلومة خطأ حيث لم يكن (عبدالقدوس) من بين أعضاء الفرقة التى كانت تضم في البداية (ستيفان روستي، وحسين رياض، وحسن فايق).
الخطأ السادس:
جاء في الحلقة التاسعة حيث تعرف نجيب الريحاني على (صالحة قاصين) التى قدمها المسلسل كأنثي لعوب، وعندما سألها عن مهنتها قالت وكما جاء في الجريمة الدرامية (أقصد المسلسل) : (أنا مغنية ورقاصة عربى وأفرنجى .. العيلة فى الشام وأنا وأختى هنا بس كل واحدة مع نفسها)، وبالفعل ظهرت (صالحة) على مسرح الأوبرا وهى تغني، بعدها أثني الريحاني على صوتها ويقول لها: (إيه الصوت الكروان ده .. ده صوت م الجنة!)، والحقيقة أن هذا كلام فارغ وعار من الصحة، فمن المعروف والمشهور جدا أن (صالحة قاصين) كانت من أوائل الممثلات في مصر وقدمت كثير من المسرحيات، كما ظهرت في كثير من أفلام الثلاثينات والأربعينات، ولم تكن مغنية في يوم من الأيام، ولا فتاة ليل كما أظهرها الأستاذ الغيطي!
الخطأ السابع:
شاهدناه في الحلقة 13 حيث تتعرف (بديعة مصابني) لأول مرة على (نجيب الريحاني) وتقول له أن (عزيز عيد) هو الذي أرسلها له، وهذا الكلام غير صحيح، فلم يكن (عزيز عيد) هو سبب معرفة (بديعة) بالريحاني، ولكن كان لقائهما الأول من خلال فرقة (أحمد الشامي) عندما جاءت (بديعة) مصر لأول مرة، وعملت فترة قصيرة في مصر ثم عادت إلى لبنان، وهناك اشتغلت بالرقص والغناء، وقابلت الريحاني لثاني مرة أثناء تقديمه لمسرحية (كشكش بك) في بيروت، وبعد انتهاء عرض المسرحية ذهبت إليه في حجرته وذكرته بنفسها، وعملت معه في لبنان وعادت معه إلى مصر للعمل في فرقته وتزوجته وأثناء ذلك تعرفت علي عزيز عيد.
الخطأ الثامن:
ظهر الدكتور (جودة) صديق الريحاني وهو يغني أغنية شعبية بعنوان (على ورق الفل دلعني) وهى أغنية من التراث الشعبي لم يعرفها الجمهور، ولم تتردد إلا في مرحلة الخمسينات بعد أن قدمها (زكريا الحجاوي) أحد رواد الفن الشعبي في الخمسينات لبعض المطربات الشعبيات مثل (جمالات شيحه، وخضرة محمد خضرة)، وحققت نجاحا كبيرا، وقام بغنائها كثير من المطربيين بعد ذلك آخرهم (دينا الوديدي).. ألم أقل لكم أن (الغيطي) بيضرب الودع ويشوف المستخبي، حيث جعل الدكتور (جودة) في العشرينات يغني أغنية ظهرت في الخمسينات.
الخطأ التاسع:
أعتبره أكبر الأخطاء التى جاءت في المسلسل وهو الصورة المهينة للمرأة المصرية، فكل السيدات في المسلسل إما نصابة (لوسي) أو خائنة (نجاة زوجة منسي أفندي، فيكتورين، موزة) أو مومس (بديعة مصابني، وجليلة)، أو هبلة مثل (امتثال) التى كانت تريد الزواج من (الريحاني)، أو سليطة اللسان مثل (روزاليوسف، وأم امتثال) حتى أم الريحاني (الست لطيفة) ظهرت سيئة وجشعة لا يهمها سوى الفلوس، وتتعامل مع (الريحاني) كإنها زوجة أبيه وليست أمه.
الخطأ العاشر:
الملابس والأكسسوارات لم تكن تعبر عن مصر في بداية القرن التاسع عشر على الإطلاق، فلم نرى ما كتبه كتب (أحمد شفيق باشا) فى مذكراته التى تحمل عنوان (مذكراتى فى نصف قرن) والذي قال فيها: أن نساء الطبقة العالية كن يرتدين فى أواخر القرن التاسع عشر لباسا يسمى (الشنتيان) وهو عبارة عن سراويل واسعة جدًا تضيق عند القدمين أحيانا بحيث تتمكن السيدة من الجلوس على الشلتة، وفوق (الشنتيان) يرتدين (السلطة) أو صدار (جلبيه) بدون أكمام، ثم (اليلك) وهو رداء طويل، وكان هذا الزى غالبا من الحرير المزركش.
أما عند عند الخروج للزيارات كانت (الفراجية) ذات الأكمام المفتوحة وفوق الرأس ما يسمى (خوطوز) أوعزيزية، وهى غطاء للرأس مبطن من الداخل بقماش فوقه ورد صناعى يسدل عليه (التل) بحيث يرى الورد، ثم تحته (اليشمق) وهو من القماش الشفاف ومنه تظهر العينان فقط، وكان هذا الزى منتشرًا فى السرايات وعند كبار الأهالى ولا سيما التركيات.
أما نساء الطبقة الوسطى فكن يرتدين (الشنتيان والسلطة)، ولكن من قماش متوسط، وعند الخروج للزيارة يرتدين (السبلة)، وهى عبارة عن قميص من الحرير بدون أكمام، وفوقها (حبرة) تغطى الجسم من الرأس إلى القدم، وهى فى الغالب من الحرير الأسود، و(البرقع) الأبيض للوجه والمناديل المطرزة كغطاء للرءوس تحت الحبرة، ويرتدين خفا أصفر من قطعتين، قطعة تغطى القدم، والأخرى تلبس داخل الأولى وتغطى الساق.
أخطاء أخرى:
هذه بعض الأخطاء التى لا يمكن السكوت عليها، لكن يوجد أخطاء آخرى ترجع إلى خيال المؤلف لم نتطرق إليها أهمها حكاية (سعاد) ابنة عمة (نجيب الريحاني) التى تحبه وتهرب من المنزل، عندما تقرر الأسرة زواجها من شقيق الريحاني، فهذا الخط كله من تأليف الغيطي وليس حقيقي.
السؤال الذي حيرني!!!
السؤال الذي حيرني ولم أجد له إجابة كيف ترتضي شركة إنتاج جديدة مثل (عين للإنتاج الفني) للأخوين شادي وكريم أبوشادي أن تبدأ أول إنتاجها وتقدم عملا مثل هذا العمل المهم عن شخصية ساحرة ساكنة في وجدان وقلوب المصريين والعرب، دون أن يكون معهم – وكما حدث في مسلسل أم كلثوم – مجموعة من المؤرخين والباحثين في مختلف مجالات الحياة الفنية والسياسية والاجتماعية كمراجعين للنص من الناحية الفنية والسياسية والتاريخية، والحمد الله أن لدينا مجموعة رائعة أذكر منهم في المجال المسرحي تحديدا الأستاذ الدكتور والباحث المسرحي الكبير (سيد علي)، والدكتوروالباحث المسرحي المتميز (عمرو دوارة) صاحب أهم حدث مسرحي حصل في مصر في المائة سنة الأخيرة وهو كتابته لموسوعة المسرح المصري.
هذه بعض الأخطاء التاريخية الخاصة بتخصصي وهو الفن، وبالتأكيد هناك أخطاء تاريخية سياسية يمكن أن يكشف عنها الباحثين المتخصصين.