كتب : أحمد السماحي
منذ سنوات طويلة ويوجد في الصحافة المصرية نوعا من الصحافيين على قدر ضئيل جدا جدا من الموهبة، ولكنهم دخلوا المهنة بحثا عن (سبوبة) وتقليب عيشهم في مجالات فنية بجوار الصحافة، فاتجه بعضهم إلى التمثيل، أو تقديم البرامج التليفزيونية، أو كتابة الشعر الغنائي، أو التأليف الدرامي والسينمائي، كلا حسب علاقاته المشبوه ودرجة (لزوجته)، من هؤلاء الزميل (محمد الغيطي) الذي تجرأ ومارس أربع مهن هو أبعد شخص عنهم، وهؤلاء المهن الأربعة هى الصحافة، وتقديم البرامج، والتأليف الدرامي، وأخيرا كتابة الأشعار الغنائية كما حدث في مسلسل (الضاحك الباكي) الذي قام بتأليفه، وكتب كلمات أغنية (التتر).
محترفي النصوص السخيفة
الحقيقة أنني قبل مشاهدتي لمسلسل (الضاحك الباكي) الذي يتناول قصة حياة العملاق (نجيب الريحاني) والذي انتهى عرضه منذ أيام قليلة، كنت متوقعا أن يكون مستواه الفني بهذه الصورة الرديئة المهينة، بحكم معرفتي السابقة بأعمال (الغيطي) فهو واحد من محترفي النصوص الهزيلة، لا يخجل من التنافس على الإمعان فى الرداءة، لهذا كنت قبل عرض المسلسل أريد أن أصرخ بعلو الصوت لكل مشاهد مصري وعربي، هذا العمل فيه سم قاتل لا تقترب منه!
وسيسألني أحدكم الآن ولماذا شاهدت أنت المسلسل؟!، وهنا أقول: لأكثر من سبب، أولا: حبي وعشقي للعملاق (نجيب الريحاني)، وحبي للمخرج صاحب التاريخ الذهبي (محمد فاضل)، ورغبتي في رصد الأخطاء التى ستأتي في العمل – لأنني كنت متأكدا من وجود أخطاء بالجملة -، كل هذه الأسباب كانت وراء مشاهدتي للمسلسل المليئ بالمعلومات الخاطئة والذي يروي أحداثا ملفقة، وأثناء المشاهدة وبحكم قراءاتي عن شخصيات المسلسل كنت أصرخ أثناء المشاهدة من غير المعقول أن تتصرف الشخصيات هكذا، وأن تتكلم بهذه الطريقة، وأن تتحرك بالصورة التى شاهدناها.
ومن المستحيل أن يفكر مخرج له تاريخ مثل مبدعنا (محمد فاضل) في أن يصنع عملا من سيناريو كهذا، وأن يلجأ إلى ممثل على قدر معقول من الموهبة مثل (عمرو عبدالجليل)، وإلى ممثلة ذات تاريخ كـ (فردوس عبدالحميد) وأن يقف وراء الكاميرا بكل هدوء ليصور ما شاهدناه ويقدمه للناس.
فلا يختلف اثنان أن (محمد فاضل) مخرج كبير وقدير له مذاق خاص، وواحد من القلائل في تاريخ التليفزيون الذي عرف كيف يدفع بعجلته إلى الأمام، وكيف ينبت له جناحي فراشة وكيف يلونه بألوان قوس قزح،ويزين صدره ورأسه بريش الطاووس الملكي، وعشنا مع (فاضل) رؤاه الإجتماعية، ورؤاه السياسية، ورؤاه العاطفية، من خلال أعماله التليفزيونية والسينمائية التى قدمها، والتى نثر من خلالها أحاسيسه وعواطفه وقدم أعمال مضيئة مشعة تبدو وكأنها قد سقطت في حوض ملئ بإكسيرسحري، فتناثرت قطراته علينا لتحملنا إلى جو مشحون غير معتاد، وغير مألوف لكنه يشع بنور الفن الخالد.
محمد فاضل هذا المبدع الكبير للأسف الشديد جازف بتاريخه وتعاون مع (الغيطي)، وكانت النتيجة تلك الكارثة التى تدعى (الضاحك الباكي) التى لم يكن فيها ضاحك واحد، ولكنها أبكتنا جميعا بالتزييف وثقل الدم والاستخفاف بالعقول، أول مصيبة كانت في تسكين الأدوار، فكل أبطال العمل غير مناسبين لأدوارهم، بداية من (عمرو عبدالجليل) الذي جسد شخصية (الريحاني)، مرورا بـ (بديعة مصابني) التى جسدتها بشكل هزيل وسطحي وملابس مهلهلة، وباروكة شعر مضحكة (رزان مغربي)، وصولا للممثل ( رامي الطمباري) الذي جسد شخصية (عزيز عيد)، فمن المعروف أن عبقري الإخراج المسرحي (عزيزعيد) كان قصير القامة، وقبيح الشكل، عكس (الطمباري) الذي يتمتع بالطول الفارع والشكل المقبول.
بديعة وجورج واللهجة
ثاني الأخطاء التاريخية التى وقع فيها (الغيطي) أنه جعل الفنان الكبير (جورج أبيض) يتحدث اللهجة المصرية طول الوقت، مع العلم أنه كما كتب وحكي كثير من النجوم ومنهم الفنان (عبدالمنعم مدبولي) الذي حكي في ندوة حضرتها تحت عنوان (لقاء الرواد) كان يقيمها المركز القومي للمسرح والموسيقى، أن الفنان الكبير (جورج أبيض) الذي عمل معه فترة من الوقت كان يتحدث طول الوقت اللهجة الشامية، وكان رجلا طيبا للغاية، وبشوش الوجه، عكس ما ظهر في المسلسل من فظاظة الشخصية،
فضلا على أنه أظهر (جورج أبيض) وكأنه مدعي تمثيل ليس له علاقه بفن الأداء مع العلم أن (نجيب الريحاني) وكما جاء في مذكراته كان يحبه ويقلده في صباه.
وكان يتحدث عنه بكل ود وحب واحترام ويعتبره استاذا كبيرا، عكس ما ظهر في الحلقات حيث ظهر (الريحاني) في الحلقة الخامسة عشر وهو يسخر من (جورج أبيض) ويقول: (أنه دخل التمثيل بعضلاته) وهذا طبعا غير حقيقي وغير دقيق، فالرجل كان مثقفا حقيقيا وفنانا بارعا، ففي عام 1904 شاهده الخديوي (عباس) في مسرحية سياسية مترجمة تحت عنوان (برج نيل) وأعجب به وأرسله إلى باريس لدراسة الفن، وعاد لمصر عام 1910 ومعه فرقة فرنسية تحمل اسمه وبدأ بعرض مسرحيات باللغة الفرنسية.
كما أظهر الأخ (الغيطي) الفنانة (بديعة مصابني) وهى الأخرى تتحدث اللهجة المصرية بطلاقة، وهذا غير صحيح فالست بديعة كانت تتحدث أيضا اللهجة الشامية.
تزييف الحقائق
ثالث الأخطاء التاريخية أن (الغيطي) زيف بعض الحقائق التى ذكرها (الريحاني) في مذكراته، ففي الحلقة الرابعة عشر شاهدنا (الريحاني) كسب من (اللوترية) 180 جنية من منوم مغناطيسي يدعى (جاك) ومعه عرافه اسمها (جوليا)، والموقف كله غير صحيح حيث يقول الريحاني في مذكراته: (تدافعت الأيام متشابهة، إلى أن وصل لنجع حمادي رجل أجنبي ومعه زوجة وهى فرنسية، وكان الرجل منوما مغناطيسيا.
وفي إحدى الليالي ذهبت مع (شلة) كبيرة من الأصدقاء إلى حضور حفلة لذلك (المنوم) وبعد انتهائها تقدم الزوج يعلن أنه سيوزع تذاكر (لوتريه) ثمن الواحدة عشرون مليما بينها تذكرة واحدة تكسب، وما هو المكسب؟ هو أن يزور صاحبها عصر اليوم التالي مقر هذا الزائر كي تقرأ المدام كفه، وتطلعه على ما خفي من أمره.
ويضيف الريحاني: اشتريت كغيري تذكرة، وأنا أدعو الله أن أكون الفائز، وظهرت النتيجة فإذا الفائز زميل لي في الشركة اسمه (عبدالكريم أفندي صدقي)، وبعد أن قمت بعملية (لعن سنسفيل) أبو الدهر القاسي والحظ العائر وعدت إلى البيت، ذهبت في اليوم التالي إلى عملي في الشركة فلقيني زميلي (عبدالكريم) وأعطاني (اللوترية) لأنه مسافر لأمر ضروري، وطلب مني بما أنه مش هيستفيد من التذكرة فخذها أنت وروح شوف بختك عند الولية وجوزها)!.
وبالفعل ذهب (الريحاني) وجلس أمام العرافة التى توقعت لها بأشياء كثيرة حدثت له سواء في الماضي أو الحاضر، بعدها سافرت ولم يراها بعد ذلك إطلاقا، عكس ما جاء في المسلسل حيث شاهدنا (جوليا / صبا الرافعي) موجودة طوال الحلقات في منزل الريحاني!.
أما مسألة الـ 180 جنية التى كسبها من (اللوترية) فهي أيضا ملفقة، والحقيقة أنه أخذ من الشركة التى كان يعمل فيها مبلغ 70 جنيه بعد أن تم رفده من وظيفته، حيث يقول الريحاني : (نقدتني الشركة ماهية ثلاثة أشهر كمكافأة وقد بلغت قيمتها مبلغ سبعين جنيها)!.
مصيبة بديعة
رابع الأخطاء التاريخية للأخ (الغيطي) ما فعله في ملكة المسارح (بديعة مصابني) هذه الفنانة التى كانت بمثابة أكاديمية فنية تخرج منها أساطين النغم والغناء والكلمات مثل (أبوالسعود الأبياري، إبراهيم حموده، فريد غصن، تحية كاريوكا، سامية جمال، ببا عز الدين، فريد الأطرش، محمد عبدالمطلب) وغيرهم، حيث أظهرها المسلسل بشكل سيئ جدا وردئ للغاية، فشاهدناها مجرد (مومس) تتنقل بين الرجال للحصول على أموالهم.
وقدمها كنوع من المجاملة لشخصية (رزان) – البعيدة تماما عن الدور من حيث الشكل والأداء – من الحلقات الأولى وهى في لبنان تحلم بالنزول إلى مصر، وبالفعل تأتي إلى القاهرة ولا نراها إلا وهي تتنقل بين الرجال، وهذا مخالف لمذكرات (بديعة مصابني) التى نشرتها مجلتي (الشبكة، والموعد) وأيضا مخالف لمذكرات نجيب الريحاني الذي قال فيها:
(في أول حفلاتنا في سوريا ولبنان أثناء تقديمنا لمسرحية “كشكش بك” لفت نظري في المقصورة الأولى سيدة “بتلعلع” حيث ارتدت أفخم الملابس وتحلت بأبهى زينة، وأدهشني أن وجدت هذه السيدة بذاتها تحضر لتحيتي وتهنئني في حجرتي بالمسرح، ويظهر أنها لاحظت ما أنا فيه من ارتباك فدفعها ذكاؤها إلى أن تعرفني بنفسها فقالت: ألا أنت مش فاكرني ولا ايه؟.. أنا بديعة مصابني اللي قابلتك في مصر وكتبت وياك كنتراتو ولا اشتغلتش لأنني رجعت للشام على عجل لأمور قضائية تتصل بعملي هناك، حيث أعمل بنجاح تام كراقصة، وعرفت فعلا إنها راقصة لها اسمها الذي ذاع في أنحاء سوريا ولبنان، كما أنها اشتركت في فرقة (أمين عطالله) التى قدمها في الشام تحت اسم (كشكش بك).
ويقول الريحاني: في تلك الليلة التى جاءت إلى حجرتي إلى المسرح جددنا عقد الاتفاق على العمل، وانضمت بديعة إلى الفرقة وظهرت معنا لأول مرة بمرتب شهري قدره أربعون جنيها مصريا، وكان أول اشتراك فعلي لها معنا في بيروت، حيث ظهرت في أدوار غنائية، فنالت ما كنت أوقن به من نجاح.
ويستطرد الريحاني: كانت بديعة فنانة بفطرتها، وكانت تهوى المسرح بطيبعتها، وكنت أحس ذلك منها، وأرى في قوامها وفي جمالها ما يساعد على تكوين عقيدتي التى أبديتها، وهى إنني لابد وأن أجعل منها الممثلة التى ابتغيها، ولذلك لم أكن أولى غضبها و(عصبيتها) أية عناية بل بالعكس كانت كلما ازدادت غضبا ازدادت قسوة ونضال في سبيل مصلحتها من ناحية ومصلحة عملي من الناحية الأخرى.
وأخيرا آن أوان اقتطاف الثمرة، وجاء الوقت الذي شاءت فيه العناية أن تنيلنا أجر ما بذلنا من جهود فظهرت رواية (الليالي الملاح) آية فنية رائعة، وبدت فيها (بديعة مصابني) كوكبا هل على الجمهور في صورة ملكت لبه، واحتلت مكامن إعجابه، وزاد الإقبال وتحسنت الأحوال، وبدأ الناس يتحدثون في كل مكان عن ممثلتنا الجديدة، وكانت بديعة هاوية خالصة الهواية وشعلة من النشاط).
انتهى كلام الريحاني، عن (بديعة مصابني) وهي صورة لا تمت لما قدم في المسلسل، ولا لشخصية (رزان مغربي) المتصنعة التى سقطت سقوطا مدويا في تجسيد الشخصية، وأخطأ صناع المسلسل في تقديم اسمها حيث ذكر أن اسمها (بديعة جورج مصابني) والصحيح أن اسمها (بديعة حبيب مصابني) وقدمها طوال الحلقات بدون أي تغيير طرأ علي ملامحها رغم مرور سنوات طويلة حيث حضرت إلى مصر وهي في العشرينات من العمر، وتركتها وهى في بداية الخمسينات!.
………………….
في الحلقة القادمة:
نواصل عرض الأخطاء التاريخية، ونكتب عن سيدات مصر اللاتي أهانهن الغيطي، كما سنعرف كيف ضرب (سيادة المؤلف) الودع وتنبأ بالمستقبل وقدم أغنيات قبل تقديمها بعشرات السنين!