في ذكراه العاشرة عمار الشريعي يعترف هؤلاء علموني
إعداد : أحمد السماحي
(أنا مش أعمى يا هوووه / يا خلق يا عميانيين / ده أنا قلبي ما فيه أخوه / لكن زماني ضنين / أنا لا أنا عاجز ضرير/ ولا كل من شاف بصير / والله يا عمي القلوب / لخط بإيدي المصير).
تتذكرون بالطبع هذه الأغنية العذبة الجميلة التى قدمها مطربنا الكبير علي الحجار في مسلسل (الأيام) والتى تعكس ملامح عمل إبدعي، يكثف معاني التحدي والقوة والإرادة، حتى أنها طبعت بكلماتها ونغماتها في عقلي لأتذكرها اليوم في الذكر العاشرة لصاحبها ومؤلفها الموسيقار العبقري (عمار الشريعي) الذي أعتبره (أبي الروحي) الذي رحل عن حياتنا في مثل هذا اليوم 7 ديسمبر عام 2012.
والحديث عن الموسيقار المثقف والمفكر (عمار الشريعي) يحتاج مجلدات ومجلدات حتى نوفيه حقه، لأنه كان أحد أساطين التلحين في عصرنا المعاصر، واستطاع بإبداعه المدهش أن يترك بصمة محفورة في وجداننا جميعا سواء من خلال أعماله الدرامية الكثيرة التى قدمها، أو من خلال ألحانه التي عانقت حناجر كثير من المطربيين والمطربات.
هذا الأسبوع في باب (صحافة زمان) وقع اختيارنا على حوار قديم شيق وممتع له نشر عام 1999 في مجلة (نصف الدنيا) أجراه الزميلان (نرمين القويسني، وأسامة الرحيمي) عن فضل الثقافة عليه، والأساتذة الذين تعلم منهم، واخترنا منه الجزء الخاص بالأساتذة الذين تعلم منهم وكانوا نورا أضاء له الطريق.
مصادر الثقافة
في بداية الحوار قال: بحكم ظروفي الشخصية وهى فقد البصر، كان علي التعامل مع مصدرين للثقافة لا ثالث لهما، المصدر الأول سمعي، وبدأ بمن كانوا يقرأون لي، وهذا أدخلني في مزالق كثيرة لأنني كان لابد أن أسأل نفسي دائما من يمكن أن أسمع، فكثير من البشر قرأوا لي، وأذكر واحدا منهم كان يقول (هذه الشعبي) وتعلم عقلي في تلك الأيام أن يترجم، وأن أعدل وأنا أسمع، لهذا وصلت لمرحلة أن أي أحد يمكن أن يقرأ وأفهم دون مشاكل هذا رافد.
فضل بهاء طاهر ومحمود مرسي
الرافد الرئيسي الثاني كان الإذاعة وأنا مثقف ثقافة إذاعية إذا جاز التعبير، وأهم منابعها كان البرنامج الثاني، فأنا من أولاده الذين تربوا على حجره، وأنا تربيت على (بهاء طاهر، وصلاح عز الدين، ومحمود مرسي، وعبدالمنعم زكي) في الاقتصادي، والدكتور حسين فوزي في حديثه الموسيقي الساحر كل يوم جمعه)، كل هؤلاء ساهموا في تربيتي الفكرية، وأنا كنت مدمن (برنامج ثاني) والثلاث ساعات التى يبثها أسمعها يوميا.
إذاعة الـ (B.B.C)
أيضا كنت أسمع إذاعة الـ (B.B.C) التى ساهمت في تشكيلي الثقافي، وأنا في سن مبكرة كنت أحب طريقة نطق الإنجليزي عندهم ، له جرس، وعندهم تعبيرات نطقية عجيبة، فهم يحترمون الممدود والساكن والمضغم، ولهم التواءات حنجرية كنت أحبها جدا، وأمشي أقلدها وأنا في المدرسة، وسمعت هذه الإذاعة بدأب ومثابرة، الأول (مكنتش بافهم، وبدأت أتنور تدريجيا، أسمع الأخبار، البرامج السياسية، والدرامية، وبدأت ألم بجزء كبير مما تعلمته منها، بإختصار أنا إبن إذاعة بشكل عام، وابن من قرأوا لي بشكل أقل)
طريقة برايل
الرافد الثالث لي كان القراءة بطريقة (برايل) وهذا ما أحبه حتى الآن، فأنا أحب القراءة أكثر من السمع، يعني أحب أقرأ بيدي، وأرى أن السماع به كسر لعالم القارئ أيا كان الصوت الذي يقرأ لك، فأنت ترتبط بمن يقرأ لك وبحالته المزاجية، وبقدرته على الأداء، ويربطك بما يعلم وبما لا يعلم حتى تلعثماته تخرجك من عالمك الخاص، عكس القراء، ولعلمكم نحن نمتلك ميزة عنكم وهى إنني أستطيع أن أقرأ تحت اللحاف، (مش محتاج نور)، وليس هناك شيئ يكسر هذا العالم، والشيئ الوحيد الذي يشغلني هو قلة كتب (برايل)، وإن كنا تعرفنا على كنوز بعد ذلك، مثل معهد الملك البريطاني للمكفوفين، ويضم مكتبة بها 2 مليون كتاب بطريقة (برايل) لكن المشكلة أنهم أوقفوا الإعارة، لكن تظل طريقة (برايل) مصدرا هاما لي من ناحية الكمبيوتر، خصوصا بعد ما نطق، أصبحت أسهل بكثير، وأنا عامل مشروع على حسابي لكتابة الكتب بهذه الطريقة في بيتي وأنشرها على المكفوفين.
لويس عوض
فضلا عن كل ما ذكرته لكما أضف إليهم البشر الذين نتقابل معهم في الحياة، والذين نستقي منهم أفكارا ووجهات نظر، وأنا من الناس الذين يهضمون ويستوعبون جيدا، والحمد الله ذاكراتي واعية جدا، أكاد لا أنسى، لذلك بشر عديدون ساهموا في تربيتي الفكرية من غير قصد، ومنهم من التقيته مرة واحدة وكانت كافية مثل الدكتور (لويس عوض) الذي تقابلت معه عند الشاعر (بدر توفيق) سنة 1968 ولم يكن يتحدث معي أنا، وكان يوجه كلامه لـ (صلاح عبدالصبور، ومحمود السعدني، ومحمود أمين العالم)، ويومها ترك (لويس عوض) انطباعت كثيرة في داخلي، وفهمت منه مستغلقات لم أكن أفهمها.
عمو كامل الشناوي
أنا أيضا من عشاق صلاح عبدالصبور (بأموت فيه)، وكان دائما يمثل نقطة جذب، وكنت دائما أجلس أتفرج عليه، كنت أحب أشوف وقفاته شكلها إيه، وماذا يقصد بكذا وبكذا، وكأن قصده لم يكن يظهر لي إلا إذا قرأ أمامي، وأذكر أيضا (كامل الشناوي) أو (عمو كامل) لأنه كان صديق أبي، وكنت أشوفه مرة كل يوم جمعة على قهوة (الأنجلو) في وسط البلد، وتعرفت على شعر (أحمد شوقي) عن طريقه، وكان (كامل الشناوي) قارئا جميلا ومتحدثا لا يمل، وطيب القلب، وظريفا، وأذكره مرة سأل أبي: (يا علي الواد ده فنان قوي، أنت متأكد انه من عبلتكم؟!).
أحمد بدوي ويحيي حقي
لا أنسى الدكتور (أحمد بدوي) مدير جامعة القاهرة الأسبق، وصاحب كتاب (في موكب الشمس) وهو مؤرخ مصري كبير في الحقيقة، وكان أديبا أيضا ولا يمل الكلام والشرح، وكان يحبني جدا لأنه كان صديقا لأبي، وكانت زوجته الدكتورة (زينب راشد) صديقه لأمي أيضا، فقد كان كثير الزيارة لنا وكان يخصني بها، بمعنى أنه كان يتكلم معهم دقيقتين، وبعدها نتكلم أنا وهو في كل شيئ، وتعرفت من هذا الرجل على أشياء كثيرة جدا، مثلا هو الذي عرفني إلى (يحيي حقي) اللي بأموت فيه، وتحولت فيما بعد لأحد مريديه، وأيضا عرفني بنجيب محفوظ، ومن خلال عينيه تفتحت عيني على قمم مصرية، وقيم لم يكن ممكنا أن أراها بمفردي، ومن خلاله عرفت التاريخ.
أحمد مخيمر
أذكر أيضا أساتذتي في المدرسة الشاعرين (أحمد مخيمر، وتوفيق جبر) وأيضا (رشدي بك) الذي كان يحفزنا ويغرم من جيبه كل أسبوع خمسة جنيهات من أجل أن نحفظ الشعر.
التعرف على الموسيقى
يوضح (عمار الشريعي) في هذا الحوار الشيق كيف تعرف على الموسيقى لأول مرة فيقول: بدأت الموسيقى معي منذ ولادتي يعني مع أول (واء) أقولها، والفضل الأول والأساسي في تعليمي الموسيقي هم أساتذتي في المدرسة، وكنا نحن أول جيل من المكفوفين يصل للجامعة من غير الأزهريين، وعندما فتحوا لنا المدرسة لم يعرفوا إلى أين سنذهب وفي أية سكة سنكمل، وكان أمامنا المعاهد الموسيقية وكانت تقبل المكفوفين، والمعاهد الدينية، والسكة الثالثة كانت التربية اليدوية مثل الحرف المختلفة.
وكانوا في المدرسة يعلمونا الموسيقى وكانت تأتي لجنة من وزارة التعليم يرأسها (توفيق الاسطمبولي)، وكان مفتشا للموسيقى بالوزارة وكان له الفضل في تعلمنا قراءة النوتة بطريقة (برايل) وطبع لنا الكتب وراجعها، وأذكر أنني كنت بحفظ سماعي، وكنا نتسابق كطلبة في فك توزيعات (أندريا رايدار، وعلي إسماعيل) ونكتبها ونحكم أي حد فاهم، وأنا أيضا مدين لأستاذي (عبدالله محسن) طوال حياتي لأنه له الفضل في تعلمي الموسيقى أكاديميا.