بقلم: محمود حسونة
ليت للتفاهة عنوان حتى نتجنب الذهاب إليه، ولكنها للأسف أصبحت تظهر لنا من حيث لا ندري ولا نتوقع، ولم يعد عنوانها فقط مواقع التواصل الاجتماعي التي تضج بالغث متعدد الألوان والأشكال والمضامين، ولا القنوات التليفزيونية التي تتبارى في عرض كل فارغ وخال من الفائدة، ولا منصات العرض التليفزيوني التي تفاءلنا في بدايتها بأنها ستملأ الفراغ الفكري الذي تفرضه علينا التليفزيونات ففوجئنا بها تزيدنا خواءً وترفع نسب البلاهة بين أجيالنا الصاعدة وتكرس الأفكار الهدامة في حياتنا وتتجاوز قيمنا وتهدم قائمة المحظورات التي كانت تقينا شر الوافد إلينا من عالم الانحطاط الفكري والأخلاقي.
منصات العرض التليفزيوني أصبحت اليوم تتسابق فيما بينها في كم ما تعرضه أملاً في جذب أكبر قطاع من المشاهدين بصرف النظر عن مضمونه، وما إذا كان مناسباً لمجتمعاتنا أو غير مناسب، ولذا فقد ارتفعت نسب المسلسلات التي ينقلونها حرفياً عن مسلسلات غربية، والغريب أنهم لا ينقلون ما يُعمل العقل ويستثير الفكر، ولكنهم ينقلون ما يثير الغرائز وينشر التسطيح وينثر في حياتنا بذور الخلاعة والابتذال الفكري والوجداني. فبعد أن أتحفتنا منصة (شاهد VIP) بالمسلسل المستفز (قواعد الطلاق الـ 45) تتحفنا اليوم بمسلسل لا يقل عنه استفزازاً وتجاوزاً وهو (مجنونة بيك)، والمنقول عن المسلسل الأمريكي Crazy Ex-Girlfriend بطولة (فينسنت رودريجيز وراتشيل بلوم وألين بروش)، والذي تم عرضه لأول مرة على شاشة CW عام 2015 واستمر لمدة 4 سنوات وانتهى بموسمه الرابع عام 2019 حول المحامية (ريبيكا) التي تنتقل للعيش في كاليفورنيا لتحاول أن تكسب رضا حبيبها السابق(جوش) أو (فينسينت رودريجيز الثالث)، الذي عرفته في الثانوية.
المسلسل الأمريكي تم نقله وإصدار نسخة مصرية منه، وصفها مؤلفها (عمرو مدحت) بأنها (تجربة غريبة ولذيذة)، وأنه أمضى سنة في كتابته و5 أشهر في التحضير له، ولا أعرف إحساس اللذة الذي يمكن أن يحسه إنسان في أن ينقل تجارب غيره، ويعطيها أسماء مصرية مع تعديلات في أسماء المدن، حيث تحولت كاليفورنيا إلى الأسكندرية، وتغيرت المدرسة التي كانت تدرس فيها بطلة النسخة الأمريكية إلى جامعة في النسخة المصرية، فعلى سبيل المثال تحولت (ريبيكا) إلى (رندا)، كما أنه ليس من المنطقي أن يستغرق التأليف وبشكل أدق النقل عاماً كما قال الكاتب في حين أن من يبدع ويبني عالماً من خياله ليسقطه على الواقع، أو يستوحيه من الواقع، قد لا يستغرق كل هذا الوقت.
المسلسل يتمحور حول شخصيات لا نتمنى وجودها في حياتنا، فكل منها ملتقى للتناقضات والتفاهة والتنازل عن الكرامة باسم الحب، وكأن الحب والكرامة متضادان لا يجتمعان، شخصية (رندا) المحامية المتميزة في عملها والمرشحة لتمثيل شركتها الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية تلتقي مصادفة بالشاب (علي) الذي كانت تحبه خلال الدراسة الجامعية، وتعرف منه أنه انتقل للعيش والحياة في الأسكندرية، فتقرر ترك شركتها الكبرى والتخلي عن نجاحها وطموحاتها المهنية لتلحق به في الأسكندرية، رغم أنه هو من رفض الارتباط بها سابقاً، وفي الأسكندرية تعمل في شركة صغيرة وهدفها الأوحد في الحياة ليس النجاح المهني ولكن ملاحقة حبيبها السابق علي رغم علمها بارتباطه بأخرى، وتكثر بينهما المصادفات ليلتقيان مراراً في الشارع أو في المقهى وكأن الأسكندرية قرية صغيرة، وبعد ذلك تستعين بجهاز تتبع لتتتبع تحركاته، وهو لا يبدي أي اهتمام بها، وفي ذات الوقت يحبها في صمت صديقه (عمرو) وهي تعامله بعدم اهتمام، وتزاملها في المكتب (بثينة) وتصبح صديقة مقربة لها، ورغم أنها زوجة وأم تعاني الكثير من المشاكل في حياتها الأسرية، إلا أن المسلسل يجعلها منصرفة بشكل كامل عن مشاكلها ومتفرغة لحل مشاكل رندا.. لا منطق في الأحداث، ولا وعي لدى الأبطال، والكل يدور في فلك من لا يريده.
الميزة الأساسية في المسلسل هو إسناد بطولته إلى وجوه عرفناها من قبل ولكنها لم تتصد للبطولة المطلقة من قبل باستثناء الممثل المصري العالمي (أمير المصري) الذي ترك بصمة في الخارج ونال جوائز مهمة ولكن عينه على الداخل، ويؤمن في قرارة نفسه أن نجومية الفنان بين جمهور بلده له طعم آخر، ولذا يضع النجومية في مصر نصب عينيه، ولكنه يبدو أن أول بطولة له في مصر جاءت في عمل لا يضيف إلى رصيده بل يمكن أن ينال منه، ولعله يتم تعويضه عالمياً ويكفيه أنه شارك في أفضل وأهم مسلسل أنتجته الدراما العالمية وهو (التاج) أو (ذا كراون) والذي يتناول حياة العائلة المالكة البريطانية، منذ ما قبل تولي إليزابيث الثانية عرش بريطانيا وحتى اليوم، ليكشف الغامض من أسرار في علاقات أفراد أعرق عائلة مالكة في العالم، مؤدياً شخصية رجل الأعمال المصري الشهير (محمد الفايد) في شبابه (والد حبيب الأميرة ديانا والذي لقي مصرعه معها في حادث سير بباريس)، ومحمد الفايد هو مؤسس محلات هارودز البريطانية والأشهر عالمياً؛ وشارك في بطولة (مجنونة بيك) الممثل الواعد آدم الشرقاوي والذي مارس التمثيل أيضاً في الولايات المتحدة، ومن الأمور التي لفتت انتباه المشاهدين لكنة أمير وآدم أو (عمرو وعلي) والتي جاءت مصرية مكسرة، دون أن نفهم سبب اختيار المخرج لهما معتمداً على هذه اللكنة بلا أي مبرر درامي لها.
فاكهة هذا العمل هي الفنانة (انتصار) في شخصية (بثينة) والتي أضفت طعماً كوميدياً وخفة دم ساهمت في تخفيف رفض الكثيرين للعمل. أما البطلة (مريم الخشت) فتحس وكأن المسلسل مصنوع خصيصاً لها، في محاولة من القائمين عليه لصناعة بطلة ونجمة استعراضية منها، ولذا فقد تم حشوه بالكثير من المشاهد الاستعراضية الغنائية لها، ورغم ذلك فلم يتحقق المراد ولم يتقبل الكثيرون أداء ولاغناء ولا استعراض الخشت، وهو ما يؤكد أن الموهبة الحقيقية تفرض نفسها وأن صناعة النجمة يعتمد بشكل أساسي على قدرات الممثلة وليس على قدرات الانتاج.
mahmoudhassouna2020@gmail.com