كتب : محمد حبوشة
استطاع مسلسل (بيت فرح) في 20 حلقة فقط أن يعيد لنا أجواء العلاقات بين الجيران فيما التي كانت في الماضى علامة مميزة على صحة العلاقة بين المصريين الذين يسكنون نفس القرية أو الشارع أو الحارة المسكونة بالأمن والأمان، حيث كان يسودها الوئام والانسجام، والتعاون والتلاحم، والتكافل والتكاتف، والتواد والتراحم، هؤلا البسطاء الذين عاشوا على الحلوة والمرة، في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وارتبطوا فيما بينهم بأواصر الألفة والمحبة، والوفاء والإخلاص، وحب الخير والعمل به، والإيمان بأهمية الجار، والإحسان إليه، والذود عنه.
نعم أثبت هذا المسلسل الاجتماعي بامتياز كيف كانت حياة الجيران خالية من المشاكل والتعقيدات، التي فرضتها الحياة العصرية، وسادت بينهم العلاقات الأخوية، القائمة على حب المساعدة والإيثار، فكان الجار حتى وقت قريب حاضرا في كل المناسبات والأحداث اليومية التي يمر بها جيرانه، وأهمها الأفراح والأتراح، يتزاورون فيما بينهم، ويعاون بعضهم بعضا، ويشكلون ما يشبه العائلة الواحدة، نتج عنها علاقات مصاهرة، وصداقات حميمة ومديدة.
ومع إطلالة الحياة العصرية، انهارت تلك العلاقة المميزة التي كانت تربط بين الجيران في الماضي، مثلما انهار واختفى كل شيء أصيل وجميل في حياتنا، وبسبب صعوبة الحياة وهمومها ومشاغلها، التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، جعلت بعض الناس لا يجدون فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات فيما بينهم، وإحياء العادات والتقاليد الأصيلة، التي نشأوا وتربوا عليها، والتي تحث على حسن معاملة الجار، وإسداء العون له، وتبادل الزيارة معه، والوقوف إلى جانبه، في السراء والضراء، وفي أوقات الأفراح والأتراح.
ولهذا فإننا نلمس في مسلسل (بيت فرح) كيف أننا في حاجة ماسة إلى أن تعود العلاقة بين الجيران التي كانت فيما مضى متينة ومميزة، تعوض المرء عن علاقاته العائلية، وهو ما يتضح في علاقة الأستاذ (فرح) مدرس اللغة العربية، الذي جاء دوره في إطار اجتماعى مليء بالمشاعر الرومانسية والشجن، حول رجل يعيش في شقة داخل عمارة سكنية ويعاني من الوحدة والعزلة بعد وفاة زوجته، وتحدث له العديد من المواقف والمفارقات مع جيرانه بالعمارة التي تغير شكل حياته تماما، حيث يكون لهذا الشخص حكاية مع كل جارة من جيرانه بالعمارة.
ومن خلال بعض المواقف والمفارقات الكوميدية التي جاءت بحس تراجيدي خفيف تبدو تلك العلاقات غاية في الود والتراحم فيما بين الجيران على الرغم من توتر العلاقة بين (فرح/ فتحي عبد الوهاب) و(عاليا/ داليا مصطفي) في بداية الأحداث إلا أن الأيام تثبت عكس ذلك تماما، بحيث تتحول عمليات الشد والجذب إلى حالة من الانسجام على أثر تقلبات الأيام وتحول المواقف على أثر الأزمات التي تتعرض لها بنت أحد الجيران (حنين) التي يقع عليها ظلم وافتراء من زوجها العابث (أيمن زاهر/ عابد عناني) حيث تعاطف معها (فرح) واحتواها وابنتها في شقته، بينما شقيقها (مالك/ محمد علي رزق) يتخلى عنها بضغط من جانب زوجته الأنانية (ميرا/ ليلى حسين) التي تورطه في قضية يفيق على أثرها وينتبه لتقصيره في حق شقيقية.
المؤلفة (هبة رجب) استطاعت أن ترسم لنا خطوطا درامية غاية في البراعة تتداخل فيما بينها لتعيد الاعتبار لعلاقة الجيران في زمن تاهت فيه معاني القيم والعادات والتقاليد التي تربينا عليها في زحمة (الترند) وغيره من آفات عصرنا الحالي الذي باعد بينا عبر ما يسمى مواقع التواصل الاجتماعي، وقد كتبت (هبة) حوارا إنسانيا غاية في البساطة والرقي جاء على لسان أبطال العمل الذين تباروا في حسن الأداء بقيادة المايستروا (فتحي عبد الوهاب) الذي تماهي في شخصية (فرح) بمداد من موهبته الآسرة للقلوب، فقدم لنا (عبد الوهاب) لوحات اجتماعية تؤكد قدراته فائقة الجودة في التجسيد الدرامي الاحترافي، وهذا ليس بجديد على ممثل يسمو بالمشاعر المتدفقة بصدق وواقعية كما عهدناه من قبل في أعمال تكتب بسطور من نور في سجل الدراما المصرية المعاصرة.
وجاءت (دليا مصطفى) في دور (عاليا) في إبهار خاص بطرق مناطق دافئة في حياتنا، بعد تغلبها على عصبيتها وسوء معاملتها وتحولها من النقيض إلى النقيض، وذلك على جناح لغة جسد تشير إلى نضجها الفني في الخلط بين الكوميدي والتراجيدي في صورة مغايرة، فقدمت لنا ممثلة خفيفة الظل سريعة الحركة في ثبات واتزان غير معهود منها في أدوارها السابقة، ومعها على ذات الدرب والإيقاع (إيناس كامل) في رومانسية تبدو كطيف ملائكي أضفى نوعا من البراءة والإنسانية في ظهورها واختفائها في أوقات الشدة التي يمر بها (فرح)، الذي ظل أسير علاقته بها بعد أن غادرت الدنيا، لتظل السند ومبعث القوة في حالات انهياره عندما يصدم بتصرفات تنافي الأخلاق في رحلة الحياة المغلقة عليه في محور شقته وعمارته التي يسكنها.
ولقد ظهرت (سمر علام) على نمطية أدائها في دور (ورد) القادمة من ريف المنصورة بمشاكلها المعقدة جراء ظلم زوج خالتها (عبد الستار/ فتوح أحمد)، وفقدان حبيبها (محمود/ مصطفي منصور)، لتنطلق في القاهرة وعلى جناح الصراحة التي تتمتع بها إلى آفاق أخرى من المشاعر لتؤكد أنها ممثلة من الوزن الثقيل في أداء شخصيات مركبة تشير إلى موهبة كبيرة لم يتم استغلالها بعد، وتقابلها (ربيعة/ فدوى عابد) بلتقائية الفلاحة التي تسكنها تطلعات كبيرة رغم أنها زوجة بواب نفس العمارة، بينما زوجها (فتح الباب/ سليمان عيد) يحيل أعقد المواقف إلى مشاهد كوميدية فطرية على جناح سذاجة محسوبة بدقة شديدة وكم نشتاق إليها في أعمالنا الدرامية الحالية المفعة بالعنف والبلطجة.
أما (عابد عناني) فقد عزف بعمق وفاعلية على أوتار شخصية الزوج حاد الطبع متقلب المزاج بإبداعه الملاحظ منذ فترة في أداء البارع بأسلوب عذب يضعه في مصاف النجوم أصحاب المستقبل المرموق، ويظل (محمد على رزق) يعلو في أدائه ببسطة في دور الطبيب (مالك) الذي يأتمر بأمر زوجته (ليلى حسين) التي قدمت هى الأخرى أيضا دورا فارقا في مسيرتها الفنية لتدشن عهدا جديدا من الأداء الذي يجنح إلى الشر المطق والأنانية المفرطة في صورة حرباء تتلوى على صخرة الواقع المر، خاصة في علاقة مع (مروة عيد) التي جسدت دور (حنين) بأداء هادئ يميل نحو منطقة الأنسانية المفقودة داخل الكيان الأسري المهترئ.
أجاد فتوح أحمد في دور الأب الأناني الذي استغل ظروف ابنة شقيقة زوجته (ورد) ودفع بها إلى القاهرة لتلقى مصيرا مجهولا، وقد بدا (فتوح) في قمة تألقه خاصة مع ابنه (محمود) الذي جسد دوره الممثل الشاب (مصطفى منصور) بنوع التمرد المستحق رغم أنه قد طغت على شخصيتة حالة الانكسار والحيرة جراء خديعة الأب، لكنه انحاز في النهاية لحلم الزواج من ابن خالته (ورد) بدعم من أمه الممثلة القديرة (كريمة/ عايدة فهمي) التي تجلت موهبتها على قدر صغر مساحة الدور، وهو ما يشير أننا أمام ممثلة تقدر على صنع حالة تعاطف كبير معها في أي دور تقوم به، ولابد لي من الإشادة بأداء كل من (كريم محجوب) في دور (آسر)، و(ملك ياسر) في دور (جنيفر)، حيث قدما دورين رقيقين ويتمتعان ببراءة وبساطة غير مخلة في ظل أحداث تتسم بالتراجيدية والمأساوية.
ولابد لي أن أشيد بمخرجة المسلسل (شيرين) التي تمتعت بقدرة كبيرة على قيادة فريق التمثيل بنجاح منقطع النظير على نحو احترافي للغاية يؤكد كفاءتها، لتمثل عودة قوية على طريق الدراما الاجتماعية التي عهدناها منها على غرار (حكايات زوج معاصر، سارة ، أولاد الشوارع سلطان الغرام، تاجر السعادة، العار، بعد الفراق، دلع البنات) وغيرها من أعمال تعد علامات مضيئة في قلب الدراما المصرية الجادة.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام لصناع مسلسل (بيت فرح)، على استعادة زخم علاقات الجيرة المفقودة في زحمة أيامنا الحالية بعد تغير القيم الاجتماعية القائمة على الحب والتعاون، إلى قيم نفعية ومادية قائمة على تحقيق المصلحة الشخصية، على عكس ما كان سائدا في الماضي، حيث أصبحت العلاقات بين الناس في وقتنا الحاضر ترتبط بما يعود عليهم من فائدة مادية، ومنفعة شخصية، دون أي اعتبار للعلاقات مع الجيران، التي أصابها الجفاء والفتور، والتباعد والنفور، وخمدت حرارة التفاعل الاجتماعي بينهم، وأصبح مبدأ المصلحة الشخصية، وتبادل المنفعة، هما الهدف الأول في العلاقات بين الجيران.
وربما قد ساهم انتشار وسائل الاتصال الحديثة (الموبايل، والآي باد، وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها) في فتور علاقات الجيران مع بعضهم البعض وتغير طرق التواصل الاجتماعي، حيث استطاعت أن تقصر المسافات، وتذلل الكثير من صعوبات التواصل، وأقامت صلة بين الناس المتباعدين في الأمكنة، على حساب العلاقات مع أقرب الأقربين وهم الجيران، الذين لم يعدوا بحاجة لهم للتواصل معهم، ومن المؤسف أيضا، أن خلل العلاقة مع الجيران توسع وانعكس على أفراد العائلة نفسها، وصرنا نفتقر إلى تلك الروح التي كانت تسود بالأمس أجواء العائلة، من محبة ومودة وتعاون وتزاور بين أفرادها، إلى درجة أن العائلة نفسها باتت مهددة بالتفكك، حين أصبحت العلاقات بين الإخوة لا تتعدى تبادل الزيارات في المناسبات الاجتماعية، التي لا مناص منها، كمناسبات الولادة والطهور، والمرض والعزاء، والأعياد، والأفراح من خطوبة أو زواج أو نجاح، وأداء فريضة الحج أو العودة من السفر.