بقلم الأديب الكبير : حجاج أدول
لست متخصصا في نقد فنون الدراما المعروضة على الشاشات، سواء كانت شاشات دور السينما، أو شاشات التليفزيون أو شاشات الكمبيوتر، أو شاشات الهواتف الذكية، لكن في نفس الوقت أنا أديب يتذوق الفنون ويشعر بالعمل الفني بطريقته، وأيضا يحاول التفكير، وهنا لا أنقد الفنيات، بل أحاول بيان تأثير المسلسل الجريء في حياتنا الاجتماعية.
يسأل سائل: لم تكتب أبدا عن المسلسلات، فلماذا ستكتب عن مسلسل (بـ 100 وش)؟ أجيب قائلا: هذا سؤال سخيف، بل سؤال ليس له لزوم، فالمسلسل بمصطلح أهل الفن (كسر الدنيا)، أي بزغ فجأة عملاقا جبارا فأزاح ما تواجد وقتها من مسلسلات، وأصبح نقطة تحول في كوميديا المسلسلات التليفزيونية، وسيحاول البعض منافسته بمسلسل يشابه، لكن سيفشلون في موازاته أو تخطيه، إلا بتواجد بفريق فني متين، لا يقل عن فريق (بـ 100 وش) بل يزيد لأنه اللاحق و(بـ 100 وش) هو السابق، وإن قلدته مسلسلات ونجحت أكثر، فلـ (بـ 100 وش) السبق والريادة.
نحن نتحدث عن مسلسل كاسح وواثق من نفسه، أصبح في غمضة عين عملا شامخا يغنى متباهيا.. (أنا أهو أنا أهو.. تمثال رمسيس التاني) مع وافر الاحترام للعنوان الجريء وللأغنية ومبدعيها، المسلسل مترع بما يحويه من تنوع الفنيات والخبرات، من التأليف للإنتاج للإخراج للتمثيل، وما بينهم من فنيات عديدة صعب إحصائها.
سواء برضاء أو بدون، أعترف أهل الفن بنبوغ المسلسل، فماذا عن عامة الشعب، بل بالأحرى الشعوب صاحبة اللغة العربية؟ الشعوب قالت كلمتها والتفت حول المسلسل، تشاهده مرة واثنين وثلاثة! فيأتي هذا غير الفاهم، غير الواعي ليسأل قائلا: لما تكتب عن مسلسل (بـ 100 وش)؟
علينا أن ننظر ما فعل هذا المسلسل الظريف، علينا أن نتعمق في أسباب نجاحه المذهل، والذي جعل منتجي الدراما التليفزيونية ومخرجيها وممثليها وكل العاملين بها يتساءلون: كيف لهذا المسلسل أن يجعل كل منا (مذبهلا) أي مذهولا؟، الإجابة بالتفصيل عند المتخصصين والعلماء، فدارسي علم الاجتماع عليهم أن يدرسوا حال هذا المجتمع ولماذا التف حول هذا المسلسل بالملايين، الملايين بدون مبالغة، ليشاهدوا هذا المسلسل الذي فاجأهم، وفاجأ نجاحه حتى طاقم العاملين فيه.. أحدث المسلسل تفاعلات عجائبية، مثلا: أمسك بالهارب من المسلسلات المصرية، أمسكه من تلابيبه، وضغط على (لغاليغة)، وأتي به وثبّته أمام الشاشة ليتابع مسلسلا مصريا، أتى المسلسل بغالبية الرافضين للمسلسلات المصرية والملتفين حول الأفلام الأجنبية، وثبّتهم مع زوجاتهم وأبنائهم أمام نفس الشاشة العارضة للمسلسل الجميل.. وهذا نجاح مشهود يجب أن نفهم لماذا؟ هذا رأيي البسيط.
المسلسل جمع العائلة معا.. أعاد ضمّهم من بعد (بحترة) أفقدتهم حنية وحميمية التقارب العائلي المفقود.. أتى بهم برغبتهم، فقد ترك كل منهم عزلته في حجرة ما، أو هائم في سرحان ما، وانضموا صحبة واحدة في غرفة واحدة، أنظارهم مصوبة على شاشة التليفزيون، يبتسمون ويضحكون معا، ثم يتناقشوا في موضوع المسلسل.. يبدي كلا منهم شدة إعجابه بجانب ما من جوانب المسلسل، خاصة رأيهم في طاقم الممثلين.
إذن اجتمعت العائلة في لقاء عائلي طيب، شاركت فيه ست البيت وإن كانت سيدة بسيطة.. أتى إليها زوجها ليشاهد معها ومع البنات والأولاد مسلسل (بـ 100 وش) الزوج وأبناؤه الذكور خاصة، الذين كانوا يهربون من المسلسلات المصرية هروب السليم من الأجرب.. أتى للمشاهدة حامل الدكتوراه والبصمجي.. يشاهده أهل المدن والريف.. الصعيد وبحري.. كبار السن ومتوسطية والأجيال الجديدة.. إنه الفن حين يتجلى فيسعد النفس وينعش العقل ويرد الروح.. الفن الحقيقي الذي يجمع الناس في محبة ويشجهم على بث أحلى ما فيهم من عطاءات سامية.
من الكاتبين عمرو الدالي وأحمد وائل، إلى المنتج العدل جروب، إلى المخرجة كاملة أبو ذكري، ثم بقية الفنيين الماهرين والممثلات والممثلين الموهوبين، في هذا المسلسل كل الممثلين نجوم بدون استثناء.. مثلهم مثل نجمي الشاشة نيللي كريم وآسر ياسين.. وأغلبهم كانوا معروفين نوعا ما، وهنا أعطوا أحلى ما عندهم هم وبقية فريق المسلسل، نجحوا في تقديم عمل مفرح أبهج قلوبنا وأراح نفوسنا.
المسلسل أعيد عرضة عشرات المرات، بالإضافة لمن يرتاد حلقات اليوتيوب YOU TUBE.. اجتمع لمشاهدته كل شعوب بلاد اللغة العربية، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.. تماما مثلما حدث في الأيام الخوالي، أيام مسلسلات الإذاعة، وأذكر منها مسلسل سمارة بطولة تحية كاريوكا، ومسلسل ألف ليلة وليلة، الذي كان يمتعنا سنين طويلة في شهور رمضان الكريم.. وفي عصر مسلسلات التليفزيون اجتمعنا بمختلف مشاربنا لنتابع حلقات (ليالي الحلمية).. وربما هناك اختلاف، لكن أيضا يوجد ارتباط، فنذكر حين كان الكل يجتمع في مجموعات لسماع أم كلثوم كل أول خميس من كل شهر.. وأيضا تماما مثلما انتظر كل المثقفين العرب، المجلات المصرية الثقافية التي كانت ذائعة الصيت، مثل (الرسالة) على وجه المثال.. تماما مثلما كانت دور السينما تجمع الشعوب لمشاهدة الفيلم المصري.. بالطبع سيفهم الأريب (بالعامية أروبة)، ما أقصد إنها القوى الناعمة المصرية، القوى التي كانت بالنسبة كثيفة ذاخرة باهرة، ثم شابت وتفككت مفاصلها وتكاد أن تضيع، لولا نبضات منعشة مثل روائع ما تقدمه الأوبرا المصرية، وما يقدمه المجلس الأعلى للثقافة على وجه المثال، وعدد معين من الفنانين بمختلف مشاربهم، وعدد أقل من الأفلام والمسلسلات الممتازة ومنها (بـ 100 وش).
القوى الناعمة ليست مؤثرة فقط في خارج مصر، بل أساسا مؤثرة بقوة وعمق في الداخل، وهذا دور بالغ الأهمية.. كيف؟، معروف أن الأمن الداخلي هو بند من أهم بنود الأمن الوطني، تكاتف الداخل، تكاتف الشعب بكل تنويعاته حول ينابيع متفق عليها، قلوبهم وأهواءهم وتفكيرهم منها وإليها. ينابيع هم مياهها وهم المتحلقين حولها وهم الشاربين منها، ومِن هذه الينابيع تراث تاريخي وطني، وحدود دولة ترسخت في الوجدان، وشخصيات تواجدت في أزمنه قديمة، فساهمت في تشكيل وعي جماعي وطني، ومن هذه الينابيع ما نشاهده على الشاشات المتنوعة، مثل الأفلام والمسلسلات وأيضا الندوات.
لم يكن مسلسل يصل إلى الناس فيبهجهم ويعينهم على تحمل ثقل الأيام وبواخها، لم يكن يستطيع بث مناخ الفرحة والتفاؤل بين الناس، إلا وكان طاقم العمل في المسلسل، هم أنفسهم في حالة بهجة خلال العمل، فلا يبهج إلا كل ما هو مبهج، أكيد أن المنتج أحب الورق المكتوب، وتحمس فرحة له، فأقدم على الإنتاج ليس فقط وعينه على الربح، بل أيضا عينه على البهجة المطلوبة. كان جريئا وأعطى العمل لمخرجة قديرة شاطرة، وهما معا هيئا المناخ اللازم ليعطي الممثلون/ الممثلات أحلى ما عندهم، مما يذكرني بفيلمي (ابن حميدو ولعبة الست) وغيرهما من الأفلام الكوميدية الناجحة، والتي أحسسنا أن طاقم العمل كان متفاهما منسجما محبا لما يؤدونه، فلا يمكن أن نتلقى كل هذا الجو المرح الصافي، إلا وطاقم المسلسل كله بما فيه من فنيين، جميعهم في حالة إنسانية راقية، حالة تعطي عبقا حلوا ونسيما معطرا.. أنا على يقين بأن طاقم العمل كله كان مستمتعا خلال التصوير، وإلا لما شملونا بكل هذا الجمال الظريف.