بقلم : محمود حسونة
النجاح في الدراما طريقه سهل لمن يريد، وشرطه الأساسي امتلاك بعض الموهبة وإدراك كيفية مخاطبة الناس وتقديم ما يمس حياتهم اليومية ويتفاعل مع مشاعرهم ويترجم أحاسيسهم، بصرف النظر عن كون الفكرة جديدة أو سبق تقديمها وتمت إعادة تدويرها وإلباسها ثياباً لها جديدة.
مسلسل (أعمل ايه؟) الذي تم عرضه مؤخراً عبر قناة (دي إم سي) ومنصة (ووتش إت)، فكرة ليست جديدة ولكن المسلسل حقق نجاحاً جماهيرياً وتفاعل معه الناس، ولم ينصرف متابعوه عنه بعد اكتشافهم أن فكرته مكررة، بل تابعوه حتى الحلقة الخامسة والأربعين والأخيرة، وكانوا بعد كل حلقة ينتظرون التالية وهم في شوق لمعرفة كيف ستتطور الأحداث، وكيف سينجو بطله (عبدالله الفولاني) من المؤامرات المحاكة ضده، ومن أزماته المادية، وكيف سيواجه حيتان المال والسلطة والشهرة، وهو من لاحول له ولا قوة، وكيف ستنجو زوجته (إيناس) مديرة المدرسة من قرار تحويلها للنيابة الإدارية والسطو على منصبها ظلماً وبهتاناً، وكيف ستعبر بناته الأسوار الشائكة التي أقامها المتآمرون حول حياتهن والتهم التي فبركوها لهن، كان المشاهدون يتلهفون بين حلقة وأخرى لمعرفة كيف سيحل المؤلف (محمد الحناوي) والمخرج (أحمد عبدالحميد) العقد الدرامية الكثيرة وكيف سيخرجان أبطالهما من المواقف الصعبة.
الفكرة تم تناولها في العديد من الأعمال، وآخرها ليس ببعيد وهو مسلسل (أبو العروسة) الذي تم عرضه قبل أشهر معدودة ولعب بطولته سيد رجب والقديرة سوسن بدر وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا، وجاء (أعمل ايه؟) ليحقق نجاحاً مشابهاً أو أقل قليلاً، رغم أن كليهما يتمحور حول الأب، المربي الفاضل، صاحب القيم والمبادئ، الحريص على أسرته وعلى محيطه، الناكر لذاته، المهموم بأن يرى أبناءه أو بناته سعداء في حياتهم، المصر على أن يرسم لكل المحيطين به طريقاً مستقيما يسيرون عليه، ويتجاوزون بدعمه ومواقفه مختلف المطبات والتعقيدات الحياتية، المنتصر للقيم والمبادئ في عالم بلا قيم ولا مبادئ، المستعيد للزمن الجميل المندثر، والمصر على أن قيم جوهر الديانات السماوية الخالية من التطرف هى طوق النجاة من أمراض العصر، وخبائث الحضارة التقنية التي نعيشها، وتحمل الكثير من السموم وعوامل الهدم للأسرة والمجتمع، وتخلط الحابل بالنابل وتجعل ممن يتمسك بالموروث الإنساني وقيم الحق غريباً منبوذاً.
(عبدالله الفولاني) في (أعمل ايه؟) لا يختلف في رسالته عن (عبدالحميد) في (أبو العروسة)، ولكن الفنان خالد الصاوي استطاع بأسلوبه في الأداء أن يجعله مختلفاً عن الملامح التي شكلها أداء سيد رجب لشخصية (عبدالحميد) في (أبو العروسة)، ورغم أن الرسالة في المسلسلين واحدة إلا أن التفاصيل فيها الكثير من الاختلاف، ومثلما كانت شخصية (زينة) التي جسدتها (ولاء الشريف) في (أبو العروسة) من محاوره المؤثرة درامياً، كانت شخصية (شادية) التي جسدتها الفنانة الواعدة (نور إيهاب) وتألقت فيها لتحجز من خلالها مكاناً مهما لها على خريطة الدراما المصرية مستقبلاً، وكذلك تألقت معها أخواتها في المسلسل (إيمي الجندي ووردشاه مجدي والصغيرة بيلار أحمد) واللائي جسدن شخصيات (فايزة ونجاة وثومة).
الأب، مهندس الصوت بالإذاعة المصرية (عبدالله الفولاني) رجل مصري وأب صاحب مبادئ لديه أربع فتيات يعتبرهن كنوز رحلته الحياتية وجواهر نفيسة تمنح الحياة لمعاناً وبريقاً، ولأنه رجل يعيش الحاضر بقيم الزمن الجميل ولا يتغلب على مشاكله سوى بالعودة للفن والغناء الجميل الهادف الممتع المؤثر، سواءً مستمعاً أو عازفاً على عوده الذي يعتبره دواءه وقت الضيق، وخصوصاً عندما يهرب من الدنيا ودناءة ناسها ليختلي بعوده على ضفاف النيل الخالد عازفاً ومعبراً وملقياً بأوجاعه في النيل ليعود إلى بيته وبناته وحياته إنسان جديد.
ولأن (الفولاني) عاشق لغناء الزمن الجميل فقد أطلق على بناته أسماء نجمات هذا الزمن الماضي بلا عودة، (شادية وفايزة ونجاة وثومة)، ومعهن يغني في أوقات فرحهم أغانيهم، وفيهم زرع القيم النبيلة التي لا تقبل الكذب ولا النفاق ولا الاستقواء بالمال ولا بالسلطة ولا بالشهرة ولذا رفض في البداية أن يزوج (شادية) للإعلامي المشهور، وتردد في أن يزوج (فايزة) لوكيل النيابة ورفض حب (نجاة) لابن الملياردير، ولعل السبب وراء ذلك كله ما كشفت عنه الحلقة قبل الأخيرة من المسلسل بشأن أم شادية الحقيقية التي أحبت ابن رجل ثري ليتلاعب بمشاعرها، وعندما يقبلون زواجه منها عرفيا بعد اكتشاف حملها، يهرب ليلة إنجابها لابنتهما وتموت الأم ويقرر (الفولاني) وزوجته تبنيها وتحمل مسؤوليتها دون أي تفرقة بينها وبين بناته الثلاث الحقيقيات، بل تصبح هى الأكثر قرباً منه والأكثر إحساساً بهمومه والأكثر قدرةً على قراءة أفكاره، تأكيداً على أن الأب والأم ليسا فقط من ينجبان ولكن الأهم من يربيان ويعلمان ويتحملان كامل المسؤولية.
الفنانة (صابرين) اجتهدت في أدائها لشخصية (إيناس) مديرة المدرسة ووصلت إلى ذروة تألقها في الحلقة قبل الأخيرة وهى تدافع عن أمومتها لشادية، وكذلك وهى تدافع عن زوجها وتسعى لتحمل مسؤولية التزوير في أوراق رسمية عنه حتى يظل مع بناته أباً وسنداً ومربياً، ولكن يبدو أن المؤلف لم يستطع أن يمنح هذه الشخصية حقها في الكتابة، وسعى لزيادة مساحتها بما يتناسب وقيمة (صابرين)، ولكنها الزيادة المفتعلة التي جعلت شخصية (إيناس) لا تسير على خط واحد ولكنها حملت الكثير من التناقضات، فهي تارة مديرة مدرسة ومربية وتارة تحس أنها سيدة عشوائية لا تتحمل مسؤولياتها كما ينبغي، وأحيانا تجدها سيدة تلاحق زوجها ولا تنشغل سوى بالغيرة عليه وأحيانا تجدها زوجة تعي قيمة الزوج وتمنحه كل الثقة ولا يمكن أن تشك فيه، وتارة تجدها مهمومة بالآخرين خصوصاً زوجها، ثم تفاجأ بها تلومه على سعيه لحل مشاكل فتيات غير بناته، وعندما يتم اتهامه أكثر من مرة، تجدها مرعوبة عليه ولكنها الأكثر ترجيحاً لصحة الاتهامات الموجهة له لتبدو أمام المشاهدين نشازاً خارجاً عن اجماع محبي (الفولاني) الواثقين في نزاهته واستقامته.
هذا الدور ظلم صابرين وكان ينبغي لمن جسدت العديد من الشخصيات الفاعلة درامياً وصاحبة المواقف المتناسقة والمتطورة درامياً، وعلى رأس هذه الشخصيات (أم كلثوم)، كان ينبغي عليها أن ترفض هذا المسلسل بدلاً من أن تطل عبره بمساحة كبيرة ولكنها الأضعف درامياً.
(خالد الصاوي) تألق في دوره ولولا سمنته التي أثرت على طريقة كلامه وأجبرته على تقطيع جمله بما يتناسب وضيق نفسه، لبدا أفضل من الأفضل.
يعيب هذا المسلسل كثرة القضايا التي طرحها والملفات التي فتحها ليترك معظمها من دون إغلاق، ومن دون معالجة متكاملة، كانت أكثر القضايا بترا هى قضية صناعة الغناء والدراما المبتذلة الرخيصة، حيث أراد أن يقول الكثير فوقع في فخ تشتيت المشاهد وعدم الاتزان الدرامي والمط في بعض الحلقات، وعدم وضع نهايات حاسمة للكثير من العلاقات فيه والاكتفاء بالنهايات الايحائية، لتجئ الحلقة الأخيرة غير مريحة للكثير من المشاهدين.
mahmoudhassouna2020@gmail.com