بقلم : محمد شعير
لي صديق اسمه وليد، يصغرني ببضع سنين، أناكفه ويناكفني، أداعبه بمزاح كروي ثقيل فيسكت ويضحك لأنه يحترمني، لكنني أعرف أنه في خياله يسبني. القصة أن صديقي وليد نبيل فهمي يعشق فريق (مانشستر يونايتد) بجنون، وأنا بالطبع أحب (ليفربول صلاح)، وليد لا يكره محمد صلاح لكنه لا يحب ليفربول حتى تحب الأرضُ الدمَ المسفوح.. (ليه كده يا عم؟!) أسأله، ثم أتذكر في الحال غباء السؤال، (الليفر والمان) هو أقدم (ديربي) تاريخي على وجه الأرض منذ أن ظهر اختراع قطعة الجلد المستديرة التي تتهادى خلفها قلوب المليارات من البشر.
(أيوة يا وليد بس احنا مش مولودين في بيكاديلي يعني وصلاح ده.. يشيح بيده ويقول: يا عم)!
ما هذا الذي تفعله الآن؟!.. تكتب مقالا كرويا في موقع فني؟!.. (مرفوض طبعا)، أرى في خيالي الأستاذين محمد حبوشة وأحمد السماحي يصرخان بها في وجهي، لكنني جاهز بالرد.
ملعب كرة القدم بكل ما يجري داخله وحوله، نموذج مصغر لملعب الحياة كلها ومواجهاتنا، فيها الانتصار، الهزيمة، الإبداع، الإدارة، النفوس، الثقافة، السلوك، السياسة، كرة القدم مجسم صغير للكرة الأرضية والحياة عليها؛ تلك الحياة التي قد يغدو فيها الإنسان يوما على القمة، وقد يصبح في يوم آخر في القاع، مهروسا بين قطعة من الجلد أشبعتها الأقدام ركلا وبساط نديٍّ من العشب الأخضر!.
هل سيبدو الرد مقنعا؟.. هل يُجاز المقال وينشر؟!.
على أي حال: (كريستيانو رونالدو) هو أحد أساطير كرة القدم التي لن ينساها التاريخ يوما، تستطيع أن تحبه أو تكرهه، تسبه على سبيل الإشادة بموهبته وأنت تجلس محتضنا (لي الشيشة) داخل (قهوة في زينهم)، أو تلعنه متمنيا اختفاءه من الوجود ودفن ساقيه في الأرض، بينما تثمل داخل (حانة في برشلونة)، افعل هذا أو ذاك لكنك في الحالتين لن تفعل إلا وأنت ترفع رأسك إلى أعلى نحو شاشة تتمنى عيناك أن تخترقها، لعلك تفهم كيف فعلها؛ من أي ثقب عَبَرَ، ثم أحرز الهدف!.
لكن الكرة مستديرة، متقلبة، متدحرجة، كما الدنيا، والأحلام، والعمر.
في الخامس من فبراير المقبل، يكمل (رونالدو) ثمان وثلاثين عاما، قضى منها تسع سنين مع نادي (ريال مدريد) صال خلالها وجال في ملعب (سانتياجو برنابيو) العتيد، حقق البطولات وحطم الأرقام، وقبل سنة وثلاثة أشهر من الآن بالتحديد اختار أن يكون ختام الرحلة في نقطة البداية؛ ملعب (أولد ترافورد) العريق، الذي حفظ كل شبر فيه، عاد رونالدو إلى ناديه القديم (مانشستر يونايتد)؛ عشق صديقي وليد.
أحلام الختام بالنسبة لرونالدو، كانت – بالتأكيد – محاولة استعادة أكبر قدر ممكن من أمجاد الماضي في حقبة المدرب التاريخي لـ (المان) السير (أليكس فيرجسون)، حين فاز (رونالدو) مع الفريق بلقب الدوري الإنجليزي ثلاث مرات، بالإضافة إلى دوري أبطال أوروبا وجائزة (الكرة الذهبية) للمرة الأولى في حياته، وإن كان قد ضم إليها فيما بعد أربع كرات أخرى من الذهب!.
لكن.. حتى الذهب يمكن أن يذهب بريقه، يذوي، يذوب، ينصهر، كما الدنيا والأحلام والعمر.
سجل (رونالدو) 24 هدفا الموسم الماضي مع (اليونايتد)، لكن الفريق ككل لم يعد كما الماضي، شيء أسود عجيب يبدو كالشبح يطبق منذ سنوات على أنفاس الفريق ويحلق بكآبة في سماء النادي، ساءت النتائج، وبدا أن مزاج (رونالدو) نفسه غير رائق، لم تنجح خطته لختام الرحلة، وأشيع أنه يبحث عن عقد جديد، مما انعكس بالتالي على علاقته بالمدرب الجديد للفريق (إريك تين هاج) الذي تولى المسئولية في شهر مايو الماضي، إذ بدا أن العلاقة بين الاثنين يعوزها (الاستلطاف).. لماذا؟!.
أسأل صديقي وليد، فيتململ ثم يتكلم، يقول إن (رونالدو) لم يحضر فترة الإعداد قبل بداية الموسم، لذا فهو يشترك حاليا في المباريات كاحتياطي حتى يعود أساسيا بالتدريج، لكن العودة تأخرت ثم جاءت ثم تأرجحت، حتى بدأت المشكلات، وبدأ الاستبعاد الكامل من المباريات، ومع تحسن نتائج الفريق نسبيا بالمقارنة بالعام الماضي يفرح وليد، وينسى كما ينسى آخرون قصة (رونالدو) من الأساس، لسان حالهم: (كبر بقى.. كفاية كده).
أكاد أجن.. أهكذا يُعامل الموهوبون؟!: سؤالي ليس بدافع الحنين لأمرٍ قد مضى، وليس دفاعا عن مكانةٍ لنجم قد هوى، إنما انطلاقا من واقع ما يقدمه رونالدو حتى الآن في الدقائق التي يُسمح له فيها باللعب، ينزل إلى الملعب فيؤثر ويصنع ويحرز، وعندئذ أعود إلى وليد مغاضبا: (شفت؟!.. رونالدو لو أعرج لازم يلعب!)، يشيح بيده ويقول: (يا عم)!
لكن.. لكل شيء ذروة.. في حال الوصول لها يكون بعدها ما بعدها..
اختار (رونالدو) أن يصنع القنبلة.. قام بتحضيرها في منزله.. واختار توقيت التفجير.
يوم الأحد 13 نوفمبر، نشرت صحيفة (ذي صن) مقتطفات من مقابلة تليفزيونية، بدت ملتهبة كقنبلة، تحدث فيها (كريستيانو) إلى الصحفي الإنجليزي (بيرس مورجان)، واختارت صحف العالم التي نقلتها عناوين بدأتها بـ (مقابلة نارية).. و(رونالدو يفتح النار على الجميع)!
عندما جلست أقرأ تصريحاته، دفعتني الكلمات/ الانفجارات المتتالية إلى التحليق عاليا، بعيدا عن عالم الكرة، أو قريبا منه بوصفه مجسما صغيرا للعالم الكبير، وكيف تتعامل الإدارات الجامدة فيه مع المبدعين، وسر الجدل التاريخي الدائم بين الموظفين والموهوبين، ومن هم أصلا المديرون، وكيف يديرون، وهل يستحقون؟!، وكيف تتطور أو تتدهور الكيانات التاريخية الكبرى، ولماذا؟!، ثم تناثرت حولي شظايا كثيرة حملت كلمات خطيرة، مثل: الخيانة، التغيير، الحقيقة، الجماهير!.
يقول لكم رونالدو: (لقد شعرت بالخيانة في مانشستر يونايتد.. بعض الأشخاص لا يريدونني في النادي.. ليس فقط المدرب إنما آخرون في الإدارة.. لا أحترم المدرب لأنه لا يحترمني.. كيف أصبح رئيس النادي رئيسا وهو لم يكن حتى مدربا في السابق ولم أسمع به من قبل!).
ويزيد لكم رونالدو: (منذ مغادرة السير أليكس فيرجسون – المدرب التاريخي العظيم للمان – لم أشاهد أي تطور في النادي، إنه يعرف أفضل من أي شخص آخر أن النادي ليس على المسار الذي يستحقه، إنه يعلم، الجميع يعلم، والأشخاص الذين لا يرون ذلك لا يريدون أن يروا أنهم عميان).
ويعيد لكم رونالدو: (الجماهير يجب أن تعرف الحقيقة، أريد الأفضل للنادي لكن بعض الأمور بالداخل لا تساعدنا على الوصول إلى المستوى الأعلى مثل فرق السيتي وليفربول والأرسنال).
ويوصيكم رونالدو: (عليك أن تنهي كل شيء حتى تعيد البناء من جديد.. وإذا بدأوا بي فهذه ليست مشكلة بالنسبة لي.. أنا أحب النادي والجماهير فهم دائما بجانبي، لكن إذا أرادوا التغيير فليكن بشكل مختلف.. وعليهم تغيير أشياء كثيرة).
ما زالت قنبلة (رونالدو) المدوية تُحدِّث أخبارها لكنني ساءلت نفسي: كيف صنعها؟!، المؤكد أن كلماته في المقابلة لم تكن مجرد فورة غضب غير محسوبة العواقب، فالمبدعون لا يفعلونها، وسألت نفسي عن سر توقيتها، فوجدت أن العنوان الكبير لكل الإجابات هو (التحدي).. لكن أول من يتجه (كريستيانو رونالدو) نحوه بالتحدي – وياللعجب – هو (كريستيانو رونالدو نفسه)!.. كيف؟!
خلال أيام قصار سوف يكون (رونالدو) في مقدمة صفوف منتخب بلاده (البرتغال) في رحلة المجد الأخيرة، حيث بطولة كأس العالم في قطر. وبعد هذه التصريحات فإن كل الأنظار سوف تتجه إليه لتعرف – من خلال الملعب وحده – حقيقة القصة، أفلا يمكن أن يكون مسئولو ومدرب فريقه على حق باستبعاده لتراجع مستواه؟!، السؤال سيفرض نفسه دون شك بعد قنبلته، وهو يعرف هذا، ويضع نفسه بنفسه في وجه التحدي، وعليه أن يرد، باللعب وحده ولا شيء غيره.
وعندئذ.. يكون الموعد مع السؤال التالي: ماذا لو أبدع؟!، ماذا لو اعتصر آخر قطرات عناقيد موهبته تحت سمع وبصر العالم أجمع؟!، ألن يبدو وقتها كنجمة لامعة تداعب عيون أندية الدنيا بإغراء كي تمنحها البريق، بعد أن فجرت قنبلته آخر خطوط العودة في العلاقة مع النادي الإنجليزي العريق؟!.. إنها رحلة المجد والتحدي الأخيرة.. فهل سيفعلها رونالدو؟!.. لأجل هذا صنع قنبلته.
أخيرا.. يبقى أن أقول:
عذرا صديقي وليد.. دعني أصارحك.. أنا لا أحب (الليفر) فقط، إنما أحب (المان) أيضا، وأحب كل الكبار؛ كيانات ومواهب، تغريني ألعابهم جميعا، وكذلك صراعاتهم، وفي صراعات الكبار حذار ألا تكون كبيرا وإلا تسقط. في صراعات الكبار، يكفيك أن تعرف كيف تصنع – بهدوء- قنبلتك في المنزل، بعيدا عن الأعين، ثم تختار – بعناية – توقيت التفجير بنفسك، دون أن تسمح لأحد – قيد أنملة – بأن يفرض معركته عليك، أو يتلاعب بتاريخك وإبداعك وموهبتك، سواء في ملاعب الكرة، أو الدنيا بأسرها.