بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
افترق الثنائى الفنى عزيز عيد و فاطمة رشدى تحت وطأة ظروف الكساد العالمى الذى تأثرت به مصر ، بعد أن افترقا كزوجين ، و فى ظل تلك الأزمة الطاحنة التى اتت على الأخضر و اليابس حاول عزيز البقاء وحيدا بدون نجمته و محبوبته و عشقه الدائم ، و لكن يبدو أن ليست فاطمة وحدها التى فارقته و إنما أيضا فارقته ربة الحظ فلم يستقر فى عمل و لم يصبه النجاح فى أى من مشروعاته ، فقد حاول إنشاء فرقة مسرحية جديدة أجّر لها مسرح دار التمثيل العربى لكى يقدم عليه أعمالها و لكن بسبب الظروف الاقتصادية لم تستمر الفرقة و أغلقت ابوابها سريعا ، و استدعته الراقصة (ببا عز الدين) للعمل معها فى الكازينو الذى تملكه ، و لكنه وضع شرطا بأن يحقق أحد أحلامه بأن يقدم برنامجا يجمع ما بين التمثيل و الرقص الاستعراضى و الغناء المسرحى كما يفعلون فى الكازينوهات الأوروبية الشهيرة مثل : ( مولان روج و فولى بيرجير ) فهو أبو المسرح الاستعراضى و صاحب أهم تجاربه فى ( العشرة الطيبة ) ، و لكن صاحبة الكازينو رفضت ، و هاهو يعود الى صديقه اللدود الذى اختلف معه كثيرا و نجح معه كثيرا أيضا ( جورج ابيض )، و يتعاونان معا فى تكوين فرقة مسرحية و لكنها تغلق أبوابها بعد ليلة واحدة !! و لتلك الليلة قصة طريفة:
اختار عزيز مسرحية ( عقيلة ) التى كتبها بيرم التونسى – و هى من النصوص المفقودة لبيرم – لتقدمها فرقته الجديدة مع جورج أبيض ، حيث قسم المسرح إلى قسمين ، فى القسم الأيمن يقدم جورج المشهد تمثيليا ، ثم يعاد نفس المشهد غنائيا فى القسم الأيسر بقيادة المغنى الشهير و خليفة سلامة حجازى (الشيخ محمود صبح) و فى ليلة الافتتاح و بعد المشهد الأول انطلق (الشيخ صبح) بحنجرته القوية مغنيا ، فصاح جورج صارخا : سكتوا الخروف ده ، و لم تتحمل كرامة البطل الغنائى إهانة البطل الدرامى فهاجم نصف المسرح الأيسر النصف الأيمن و دارت معركة رهيبة انتهت باصابات بالغة و انتهت أيضا الفرقة إلى الأبد.
و نتاجا للأزمة الاقتصادية خرج الممثلون و أصحاب المسارح فى مظاهرة و قد أصبح معظمهم عاطلا عن العمل ، و تحدثت الصحف عن واجب الدولة فى الحفاظ على فن المسرح الجاد ، فقررت الدولة أن تنشئ الفرقة القومية فى عام 1935 وتضم لها أفضل العناصر من الممثلين و المخرجين و أسندت إدارتها الى الشاعر الكبير خليل مطران و استقرت الفرقة فى دار الأوبرا السلطانية لتقدم عروضها عليها، والطبع أصبح عزيز واحدا من أهم أعمدتها ممثلا و مخرجا إلى جانب الوافد الجديد زكى طليمات ، و اعتقد عزيز أن الحظ ابتسم له فلقد وجد أخيرا مكانا يتوفر فيه مناخ تقديم أعمال جيدة دون النظر إلى حسابات المكسب و الخسارة.
و لكن لا تأتى الريح بما تشتهى السفن ، فلم تلبث أن تعرضت الفرقة إلى الأنواء فى العام التالى ، فقد قام مديرها بالاستغناء عن 12 ممثل و ممثلة من أعضاء الفرقة ، وبرغم كل الظروف السياسية و الاقتصادية التى تمر بها مصر التى كانت على مشارف ثورة جديدة تستعيد زخم ثورة 19 ، إلا أن أزمة استغناء الفرقة عن بعض أعضائها شغلت الرأى العام ، و مضت الصحف تهاجم مدير الفرقة و تتهمه بعدة اتهامات منها محاباة بعض الممثلات و أنه ليس أفضل من يتولى هذا المنصب و أن الممثلين المفصولين أهم منه بكثير، و لم يسلم (عزيز و طليمات) من الهجوم لأنهما وافقا على الاستغناء عن زملاء لهم و لكن اتضح فيما بعد أن لا أحد قد استشارهما قبل اتخاذ هذا الإجراء !!
و يبدو أن الشاعر الكبير خليل بك مطران كان ديكتاتورا فى أمور إدارة الفرقة برغم وجود ما يشبه مجلس إدارة لها يقرر خطة الموسم و الأعمال التى ستقدم ، لكن العمل اليومى شيئ آخر ، و هكذا سرعان ما حدث صدام بين ( مطران و عزيز ) ، فقدم الأخير استقالته بعد تكرار مطالبته بالتزام الحفاظ على المواعيد !! ، و تكتب مجلة (أهل الفن) – فيما بعد – أن عزيز طرد متعمدا ، و أن طرده كان نتيجة دسائس الدساسين و حقارة صغار النفوس و نتيجة لاستعداد مطران للاستماع إلى ما يرجف به هذا النوع من مخلوقات الله.
و يخرج عزيز من الفرقة القومية فى وقت لا سبيل فيه للرزق سوى الفرقة الحكومية و لكن كرامته كانت عنده أهم من لقمة العيش ، و يشهد تلميذه ( فتوح نشاطى ) أن (عزيز) كان يحوم حول المسرح الذى استبعد منه و الذى لم يكن يستطيع نسيانه ، واضطره سوء الحال لقبول أعمال أقل من مستواه حتى أنه قبل العمل كومبارسا فى فيلم ( إلى الأبد ) من بطولة زوجته السابقة و حبه إلى الأبد ( فاطمة رشدى ) و من اخراج زوجها فى تلك الفترة ( كمال سليم ) الذى أخرج لها فيلما من علامات السينما المصرية و هو فيلم ( العزيمة ).
و يقول البعض أن ( كمال سليم ) تعمد إرسال دور عربجى لا ينطق إلى (عزيز عيد) كى يتمكن من إهانته أمام (فاطمة رشدى) و الجميع ، فقد كان يحترق غيرة من حب فاطمة لعزيز و احترامها و إجلالها له و اعترافها دوما بفضله عليها و بعبقريته الفنية و تفرده ، لذلك عامله ( كمال سليم ) معاملة مهينة أثناء التصوير ، فما كان من (فاطمة) إلا أنها غادرت الاستوديو غاضبة و هى تقول : ( ليس بمثل هذا الأسلوب يخاطب الاستاذ عزيز عيد ) ، و تم الطلاق بينها و بين كمال سليم مساء نفس اليوم مباشرة.
و اختفى عزيز عدة أشهر ظهر بعدها و معه مائتى جنيه جمعها من عمله بالإذاعة البريطانية الموجهة باللغة العربية ليضعها بين يدى ( فاطمة ) من جديد ليعيدوا تأسيس فرقتهم من جديد ، و سرعان ما استأجر ( مسرح الليدو ) بميدان الجيزة ليقدم عليه أعمال الفرقة و لكن القدر يعانده مرة أخرى ، فلقد اضطرت الفرقة إلى إغلاق أبوابها بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية و اقتراب غاراتها من القاهرة ، كما تقول (فاطمة رشدى) فى مذكراتها.
و يعود عزيز إلى الشارع ، يتسكع فى مقاهى عماد الدين باحثا عن عمل ، و حتى عندما قبل العمل فى كازينو ( ببا عز الدين ) بشروطها و استغنى عن أحلامه ، استغنت هى عنه ليعيش أيامه الأخيرة يتضور جوعا . و ذات مساء فى شهر أغسطس عام 1942 تردد عزيز على منازل أصدقائه و أحبائه و كأنه يودعهم ، و فى اليوم التالى أسلم روحه على سرير عتيق من الحديد فى منزل شقيقته الفقير الذى اقام فيه لضيق ذات اليد .
و هكذا انتهت أسطورة (طائر الفن المحترق) التى سجلتها بدقة و أمانة و براعة الفنانة القديرة ( صفاء الطوخى ) فحفظت لنا تاريخا نسيناه و شخوصا أهملنا ذكرها ، ودروسا ضاعت بين ركام التفاهات.