كتب : محمد حبوشة
(ضحك حتى عافه الضحك ضحك فأضحك، ولكنه بكى فكان بكاؤه ضحكاً متصلاً صبي شوهوه ومزقوا فاه.. شوهوه حتى أضحكوه ولم يبتسم لبؤسه سوى ثلاثة شيخ .. وعمياء .. وذئب!).
ربما تنطبق هذه العبارة التي وردت في رواية (الضاحك الباكي) لـ (فيكتور هوجو) على مسلسل (الضاحك الباكي) الذي اقتبس اسمه من (هوجو) الكاتب الصحفي محمد الغيطي، وأيده المخرج الكبير محمد فاضل، من خلال عرض ثماني حلقات فقط من المسلسل الذي أثار الجدل من بداية الحلقة الأولى، ومع أنني لست مع مؤيدي توجيه سهام النقد بكل هذا العنف لمسلسل مازال في بداية عرضه، لكني في ذات الوقت أحترم آراء النقاد والجمهور بإبداء ملاحظات أولية تطال مسلسل (الضاحك الباكي)، ومن ثم استنكر الانفعال الزائد عن الحد من جانب مؤلفه الصديق العزيز (محمد الغيطي)، فلايصح أن يقول: (لا بروح أمك أنا مراجع كويس.. انت بتكلم أساتذة وعليك احترام نفسك!)، وفيما يبدو لي أنه تعمد هذا الرد العنيف على سبيل الاستفزاز بدعاية مضادة كي يحفز أكثر الجمهور على المشاهدة.
صحيح أنه مع انطلاق الحلقة الأولى حرص عدد من المغردين على موقع التدوينات القصيرة تويتر، على الإشادة بمسلسل (الضاحك الباكي)، وأبدى عدد من المدونين إعجابهم بالمسلسل، عبر هاشتاج يحمل اسم المسلسل (الضاحك الباكى)، مؤكدين أنهم فى انتظار الحلقات المقبلة، ومن التغريدات: (المسلسل حلو بجد عموما نصبر للآخر ونحكم علي المسلسل الكل بقى نقاد ولا ايه، في حالة انتعاش للدراما حلوة أوى، بداية حلوة ومبشرة)، ومن التعليقات الأخرى: (أنا بتفرج علي مسلسل الضاحك الباكى حبا في عمرو عبد الجليل وفى أدائه وأكثر مسلسل متحمس له هو الضاحك الباكى عن قصة حياة الراحل نجيب الريحاني وبطولة عمرو عبد الجليل و الكبيرة فردوس عبد الحميد، الحقبة الزمنية اللي يتكلم عنها المسلسل محببه لي في أي عمل سواء فيلم أو مسلسل).
لكن الواقع أن قصة حياة الفنان الكبير (نجيب الريحاني) الذي يعد واحدا من رواد المسرح والسينما في مصر والوطن العربي، تمثل نقطة جذب كبيرة لجمهور متعطش لسيرة الريحاني، خاصة أن (الحياة عند الريحاني ضحكة وبكاء، فهو كما يصف نفسه: كثير الضحك كثير البكاء، فتارة أضحك وأنا أبكي، وتارة أبكي وأنا أضحك، وتارة أضحك وأنا حزين، يكاد ينفطر قلبي من الجوى، وتارة أبكي وأنا جذلان مسرور، تارة أحس قلبي يتقطع من الحزن، فأذكر قصة مضحكة أو فكاهة لطيفة، فأضحك حتى أقهقه، فإذا فرغت من القهقهة رجعت إلى ما كنت فيه من الحزن والبكاء، وتارة أكاد أطير وأرقص من الجذل والفرح، فأذكر حادثا مؤلما أو قصة محزنة أو منظرا من مناظر الشقاء فأبكي بكاءً مرّا.
وكأن لسان حال الريحاني يقول: إني لأبكي عند رؤية غروب الشمس، وعند شروقها، وعند رؤية الجمال المفرط، وأبكي عند قراءة قصيدة مؤثرة، وعند رؤية الرسم الجميل والألحان الرقيقة، وأبكي عند الغضب، وأبكي عند الرضا، وأبكي عند الفرح، وأبكي عند الحزن، وأبكي عند سماع قصة مؤثرة، أو رؤية منظر من مناظر الشقاء، أو منظر من مناظر الجلال والروعة، غير أني أجتهد أن أخفي دموعي بالضحك أو السخر أو الهزل والفكاهة، إن بي شيئا كثيرا من الحزن الطبيعي، لحقني من طريق الوراثة، وزادته القراءة والتفكير، وإنه ليخيل لي أن كل أمة لها روح ذات إحساس مثل أرواح الأفراد، وإن روح الأمة تلج إلى أرواح الأفراد وتبث فيها أطوارها وأحوالها، فإذا صح هذا التخيل لم يكن غريبا أن في نفسي شيئا كثيرا من القلق، وغيره من الصفات التي تكتسبها أرواح الأمم في حالة التغير والانتقال من أخلاق إلى أخلاق، ومن صفات إلى صفات.
ومن هنا فلم يصبر الجمهور وبعض النقاد كثيرا حتى يرى تلك المعاني وغيرها التي تعبر عن الريحاني مجسدة أمامه على الشاشة فانهال على المسلسل من بداية الحلقات الأولى التي رصد من خلالها 22 خطأ فنيا، وهى بالتأكيد كافية لتنال من العمل، وربما معهم كل الحق في توجيه سهام نقدهم إلى مسلسل انتظرناه طويلا ولم يكن متخيلا أن يحتوى على كل هذا الكم من الأخطاء التي تتعلق بالسيناريو والحوار والإخراج واختيار غير موفق لكثير من الممثلين وعلى رأسهم الفنانة القديرة (فردوس عبد الحميد) ليس لأنها لعبت دور الأم في الثلاثين من عمرها وهى في عمر (75 عاما) في الحلقة الأولى، ولكن لأن أداءها غير معبر على الإطلاق فيما بعد، فقد تمتعت ببلادة شديدة في الأداء لاتعبر بالضرورة عن روح (أم نجيب الريحاني) بقدر ما تجنح نحو التكلف والقوقعة داخل الشخصية.
نالت (فردوس عبد الحميد) النصيب الأكبر من الانتقاد اللاذع الذي أغضبها وأغضب زوجها المخرج الكبير – بالطبع لأنها اختياره الأول والأخير – فقد انحاز لها دون غيرها وزج بها في حلبة يبدو فيها الصراع على أشده – خاصة أننا نشهد تطورا دراميا على مستوى التقنيات الإخراجية ليس له نظير موجود في تجربة (الضاحك الباكي) التي تجنح نحو التقليدية والقدم في أساليب تدفع المشاهد العصري إلى النفور، فضلا عن أن اختياره للممثلين غير موفق بالمرة، حتى اختيار (عمرو عبد الجليل) الذي يشبه الريحاني إلى حد كبير، لكن أداءه يميل إلى (القلش) الذي لم يكن صفة موجودة في حياة نجيب الريحاني، ذلك الذي كان يفلسف كل موقف في حياته طبقا لخلفيته الثقافية الكبيرة وقراءاته المتعددة في فنون المسرح والأدب التي شغلت معظم حياته الثرية في فنون الضحك والبكاء على حد سواء.
ومن المفارقات المذهلة في حياة الريحاني أنه صاحب الجمل المأثورة في الحياة والفن، وهو القائل (ما تسيبونا في حالنا، هو الشقا دنيا وآخرة، شقينا كتير أهو خدنا إيه في الآخر)، حتى في تعبيراته خلال شهادته عن سيرته الذاتية بصوته المميز الأجش، كان نجيب الريحاني بارعا في تصوير المعاناة وسرقة الدموع مع الضحكات، كان الراحل صادقا في أدائه كأنما ذاق الويل فسخر منه كأبدع ما يكون، كان عظيما في اجتذاب الناس وذلك من خلال تقديم أعمال فنية يجد الناس أنفسهم فيها، إذ كان يحرص علي تناول شخصية الإنسان المطحون المكافح في سبيل لقمة العيش.
رأي الشخصي أنه ليس مبررا على الإطلاق هذا الانفعال الزائد عن الحد من جانب المؤلف (محمد الغيطي) بخصوص مداخلة الفنانة (عبير الشرقاوي) خاصة أنها لم توجه لها انتقادات حول السيناريو والحوار، بل قالت (محمد فاضل يستهزئ بالجمهور.. مطلع فردوس عبدالحميد السبعينية أم لطفل رضيع في مسلسل الضاحك الباكي)، وهذه وجهة نظر كثير ممن شاهدوا المسلسل وأنا منهم، بينما لم ينتبه (الغيطي) لما قاله الناقد (رامي متولى) وهو واحد من الذين يفهمون جيدا في النقد الدرامي: (فقد كتب عبر صفحته الشخصية على الفيسبوك: (مش مشكلة الضاحك الباكي أنه عمل ضعيف فنيا، وفيه استسهال واضح في التعامل مع العناصر دي بكل تفاصيلها من تصوير لأداء تمثيلي لسيناريو لحوار لكاستينج لإخراج، لأن من الطبيعي أنه يكون في أعمال ضعيفة ومتوسطة وجيدة، وكلها بتعمل حالة رواج وجدل حواليها زي أي عمل فني في الكوكب، لكن مشكلة المسلسل الرئيسية في رأيي أن نجيب الريحاني أكبر من محمد الغيطي وأكبر من فردوس بكل تاريخها المهم وأكبر من محمد فاضل الاسم اللي بيخض كمخرج بكل تاريخه السابق).
وتابع: (بغض النظر عن وضع وأهمية فردوس وفاضل حاليا، وأكبر بكل تأكيد من بطل العمل عمرو عبدالجليل اللي حرفيا سايق الهبل وبياكل عيش مش بيمثل بقاله سنين في (كاركاتر) مبيخرجش منه لدرجة السخافة، نجيب الريحاني فنيا أكبر من الفترة الحالية بكل نجومها الموهوبين، نجيب الريحاني مؤسس وعبقري مينفعش يتم التعامل معاه بخفة ولا بزاوية عامة ولا رؤية عفا عليها الزمن وبدون فلسفة واضحة لتناول هذا الشخص، نجيب الريحاني لما يتعمل عنه عمل لازم يبقي له زاوية وتخطيط سابق يتبني على أساسه العمل ككل).
وأوضح (متولي): الموضوع عمره ما كان أجيب اسم مخرج كبير علشان يقود عمل لمجرد أن تاريخه الفني يتضمن الأعمال الآتية، بس كنتيجة منطقية لو أساس العمل اللي هو السيناريو واللي بيتبني عليه العمل ككل، مؤلفه بيصرح في برنامج حواري بلهجة حادة: أنه راجع يا روح أمك.. وبيوجه كلامه للجمهور اللي بيتفرج على المسلسل فطبيعي جدا كرد فعل أن الجمهور يزود ويعلى اللهجة الحادة، وبكده تبقي اتقلبت خناقة شعبوية ملهاش أي علاقة بالفن ولا الأخلاق اللي بيدافع عنها محمد فاضل وفردوس عبدالحميد ليلا ونهارا ولا ليها علاقة من الأساس بشخص وقيمة نجيب الريحاني اللي هى بشكل مؤكد أهم منهم جميعا).
وعلى الرغم من الخطأين الفادحين اللذين ظهرا فى الحلقة الأولى، حيث ظهرت للفنانة فردوس عبدالحميد، وهى قبطية بترشم الصليب أثناء صلاتها بطريقة معاكسة والحقيقة – هى ليست طريقة خطأ انما هى الطريقة الخاصة بكنائس الروم سواء أرثوذكس أو كاثوليك – ولأن الأم (لطيفة) والأب (إلياس) لا ينتميان إلى هذه الكنائس، بل ينتمون إلى كنائس الكلدان الذين يرشمون الصليب مثل بعضهم البعض باليد اليمنى بداية من الجبهة نزولا للبطن انتقالا من الكتف الشمال للكتف اليمين وهذا أول خطأ تقنى بعيدا عن أن فردوس عبد الحميد تدعي بلغة عربية فصحى كلغة الازهريين وليت لغة ست قبطية بسيطة، أما الخطأ الثانى انهم فى مشهد الصلاة على والد نجيب بعد ما توفى جاءوا بممثل وألبسوه لباس رهبان وأساقفة الروم الأرثوذكس، ويقول (يا أحبائي ليس موت لعبيدك بل انتقال للحياة الأبدية)، وهى قطعة من نصوص الصلوات القبطية ، ولم يكلفوا أنفسهم بالبحث عن الأقباط الكلدان في طريقة لبسهم وكيف يصلون مع أن هناك راعى للكنيسة الكلدانية فى مصر حاليا وسهل جدا أن يسألوه.
وعلى الرغم من أن هذين خطأين كبيرين يدلان على إهمال صناع العمل لتأريخ جالية ساهمت فى تاريخ مصر، وخرج منها واحد من نوابغ الدراما المصرية.. نجيب الريحانى، فلن أتعرض للأخطاء التاريخية إلا بعد استكمال المشاهدة حتى النهاية، خاصة أن المسلسل الذي يعيد أعمال السيرة الذاتية مرة أخرى للدراما التلفزيونية لا يكتفي فقط بتوثيق حياة الريحاني، لكنه أيضا يوثق للمرحلة الزمنية التي عاشها الراحل في مصر منذ نهاية القرن الـ 19 وبدايات القرن العشرين خلال 50 عاما والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عاشتها مصر هذه المرحلة، مثل ثورة 1919 والحرب العالمية الأولى والثانية والاحتلال الإنجليزي لمصر، إلى جانب كواليس الفن المصري في هذه المرحلة الزمنية، وخاصة أن المؤلف والكاتب الصحفي محمد الغيطي اعتمد على الجدية في العمل، وذلك على عكس المتوقع بأن يكون عملا كوميديا لتناوله مسيرة واحد من أهم نجوم الكوميديا في مصر، لكن العمل لن يندرج تحت بند الكوميديا، وإن كان يتخلله بعض المواقف المضحكة.
وأخير بغض النظر عن الجدل الدائر حاليا حول مسلسل (الضاحك الباكي) كل ما أتمناه من فريق عمله أن يجسد تجسيدا حقيقيا في حلقاته القادمة قول الكاتب الساخر محمود السعدني: (إن كل رجل ضاحك هو رجل بائس.. فمقابل كل ضحكة تفرقع على لسانه، تفرقع مأساة داخل أحشائه.. ومقابل كل ابتسامة ترتسم على شفتيه، تنحدر دمعة داخل قلبه).. هذا ما أتمناه، فقد يمكنك أن تخدع الناس بعض الوقت، لكنك حتما لايمكن أن تخدعهم طول الوقت .. ياسادة (نجيب الريحاني) يستحق مسلسلا يليق بتاريخ أكبر وأهم وأعظم فليسوف مصري في فن الضحك الذي يفضي إلى البكاء!