كتب : محمد حبوشة
عندما يكون للدراما دور مهم في التوعية والتنوير، يصبح المسلسل التلفزيوني جزءا مهما في حياتنا، خاصة عندما يحكي لنا عن تاريخنا الماضي والحاضر بأسلوب مشوق يعيد لنا الثقة في الآباء الذين صنعوا مجدا تليدا على ضفاف النيل منذ فجر التاريخ وحتي اليوم، كما جاء في مسلسل (طير بينا ياقلبي) الذي أنتجه (أحمد عبد العاطي)، هذا المنتج الشاب الجسور في التطرق إلى الأفكار الاجتماعية الرائعة مثل سلسلة (نصيبي وقستمك) على جناح من الجدية وعدم اللجوء إلى زيف المشاعر وتكرار الأفكار التقليدية التي لا نحتمل مشاهدتها ولو على سبيل التسلية والترفيه.
صحيح أن مسلسل (طير بينا يا قلبي) تعرض لقضية المدراس الخاصة والدولية، والتي تم معالجتها من قبل، لكنه عالج القضية بوعى أكبر وأشمل وضمنه رسائل إيجابية عن دور الآباء والأمهات في التربية ومساندة المدرسة في دورها التربوي والتعليمي من خلال ورشة الكتابة لسيناريو محكم لكل من (إسلام شتا، باسم على الخطيب، أحمد رجب)، وإخراج رشيق لـ (عصام نصار) الذي قدم لوحات اجتماعية بشكل كوميدي لطيف بأداء مغاير للنجمة (ريم مصطفي) التي أظهرت نضوجا مختلفا عن أدوارها السابقة، والتي بدأتها بالكوميديا في بدايتها في مسلسل (هبة رجل الغراب) التي تمتعت فيه بشخصية مستفزة إلى حد كبيرربما قادتها إلى أدوار الشر التي لا تلائم طبيعتها البشوشة، لكنها هذه المرة تبدو خفيفة الظل وتحمل طاقة إيجابية تحيل أصعب المشاهد إلى واحة رحبة من الكوميديا اللذيذة.
وليست (ريم مصطفي) وحدها التي أجادت في الأداء الكوميدي القادر على جلب الضحك والفكاهة غير المبتزلة بل كانت الحلقات غاية في البراعة في لون الكوميديا (الفارس) بفرط من أداء عذب لكل من (محسن محيي الدين) فائق الموهبة، و (أحمد صيام) صاحب الروح الخفية، وقنبلة الكوميديا (هالة فاخر)، و(دنيا ماهر) في خلط دقيق بين الكوميدي والتراجيدي، و (عمرو عبد العزيز) في خفة ظل غير معهودة، و (وإبرام سمير) في حركات وسكنات كوميدية بالغة الأثر، و(إسماعيل فرغلي) القادر على تفجير الضحك من أصعب المواقف بفلسفة سهلة وبسيطة للغاية تؤكد موهبته الكبيرة، و(نور محمود) في أداء هادئ لايخلو من فكاهة ناعمة، وحتى (محمد علي رزق) في تشنجه بعين تلمع بالسخرية والتحدي، وبسمة في تعنتها وكبريائها المبالغ فيه إلى حد الاستفزاز، وكذلك عملاقة الأداء (سلوى عثمان) في الذهاب إلى مناطق دافئة في حياتنا المصرية، والحال نفسه مع (مصطفى بسيط، وحازم سمير، وخالد عليش).
كل واحد من هولاء جميعا خلق لنفسه عالما خاصا امتزج مع باقي الشخصيات في صناعة لوحة اجتماعية مشبعة بالرسائل التي جاءت في مشاهد متقنة حلقت بنا في آفاق الدراما الاجتماعية الهادفة على مستوى الشكل والمضمون، ولأن (طير بينا يا قلبي) صنع على نار هادئة فقد أكد على أن مسلسلات المواسم الموازية أثبتت كفاءة كبيرة في معالجة القضايا الاجتماعية دون اللجوء إلى الإسفاف الذي قد نلاحظه في غالبية مسلسلات رمضان المسلوقة بفعل لهاث لا ندري سببا له، حيث نخر فيه سوس (التصوير على الهواء) مؤخرا، وهو بدوره يتسبب في كوارث لايعلمها إلا الله .. فتحية تقدير للمنتج الشاب (أحمد عبد العاطي) على بدائع أفكاره، والشكر كل الشكر لباقي فريق العمل الذي حقق الانسجام ونحج في الهدف والرسائل التي جاءت في ثنايا الحلقات الممتعة.
في حلقات المسلسل بالتأكيد هنالك أكثر من (ماستر سين) من خلال المفارقات والمواقف العصيبة التي مرت داخل المدرسة وخارجها، لكني أتوقف عند مشهد تربوي يحمل رسالة وطنية خالصة في وقت نحن أحوج فيه الآن للحديث عن شخصيات أثرت وأثرت في حيانتا المصرية على نحو إيجابي يصنع القدوة والمثل: وجاء هذا المشهد على النحو التالي:
تدخل (دلال / ريم مصطفى) على أستاذ التاريخ (عصمت عجينة / أحمد صيام) قائلة أونكل عصمت : مستر علاء غايب النهاردة.
عصمت: أوووه .. لا بقولك ايه .. إذا كان اللي في دماغي يبقى تنسي الموضوع ده خالص .. أنا مش حادخل أشرح مكان حد .. آه.
دلال : يا أونكل عصمت أنا نفسي جدا الولاد يعرفوا تاريخ بلدهم وأجدادهم .. ومفيش حد أحسن منك يقوم بالمهمة دي .. أنا واثقة ومتأكدة ان انته مش حتخليها حصة دمها تقيل .. حتبقى بتعملها على شكل حواديت والولاد حيحبوها جدا.
عصمت : لا لا .. مش حينفع .. أنا الإدارة بتاعت المدرسة واخدة كل وقتي.
دلال : لا باسم الله ماشاء الله اللي يشوفنا يقول مقطعين الشغل قوي .. دا أنا اللي قايمة بكل حاجة.
عصمت : كده بتقوليلي الكلام ده يا دلال .. خلي بابي القبطان يشرح لهم تاريخ.
دلال : يا أونكل أنا باهزر معاك .. عموما بقي أنا عارفه انت مش عاوز تشرح ليه؟
عصمت : ليه يا ذكية؟
دلال : عشان انت عامل زي ممثل المسرح اللي بقاله كتير بعيد عن الأضواء وفجأة بقى مطلوب منه يطلع على المسرح تاني وخايف .. خايف يكون فقد موهبته .. على العموم يعني أنا مش حاكلمك في الموضوع ده تاني .. براحتك .. مش حابة يعني ابقى باحرجك.
عصمت ينتفض قائلا : استني .. اوعي تكوني فاكرة انك بالكلمتين الفارغين دول حتستفزيني واعمل اللي انتي عوزاه .. لا مش حاعمل كده .. ثم تراجع ليقول : بصراحة انتي استفزتيني .. أقولك على مفاجأة أنا حاروح أشرحلهم .. يلا، ثم يهم متجها نحو الفصل.
عصمت للتلاميذ في الفصل : مستر علاء غايب النهارده وأنا حادخل مكانه .. بس الحقيقة أنا مش حاتكلم في المنهج الدراسي .. أنا حادخل علشان نحكي مع بعض شوية .. وفي البداية أحب أسأل سؤال : تقدورا تقوليلي مين فيكم بيحب مادة الدراسات؟
يصمت التلاميذ ولا يجيب أي أحد عن السؤال.
عصمت بابتسامة خفيفة : واضح ان احنا عندنا مشكلة في الحكاية دي! .. وانكم مبتحبوش مادة الدراسات .. طيب ممكن حد يقول ايه السبب في انكم مبتحبوهاش؟
يرفع أحد التلاميذ يده : علشان كلها حفظ واحنا مش بنحب الحفظ.
عصمت : صح .. انت صح .. طيب بما انكم مبتحبوش الحفظ أنا حالعب معاكم لعبة : أن معايا هنا ياولاد تلات ورقات .. كل ورقة متكوب فيها اسم لشخصية عظيمة جدا في تاريخ مصر .. من أيام الفراعنة لغاية دلوقتي.
دلوقتي حاختار حد فيكم يختار ورقة من التلات ورقات .. والاسم اللي حيطلع حنحكي حكايته .. تعالي يا (حلا) اختاري ورقة من دول .. حلا اختارك الورقة رقم (1) .. الله عليك يا حلا .. اخترتي شخصية مصرية عظيمة .. أكتر شخصية التاريخ ظلمها.
ثم ذهب عصمت في سرد شخصية (طلعت باشا حرب) : الشخصية دي يا ولاد لها فضل علينا كلنا .. وبسببها أنا وعائلاتكم كسبنا فلوس كتير جدا .. ولغاية دلوقتي بنقبض مرتبتنا بسب الرجل ده .. الرجل ده هو (أبو الاقتصاد المصري)، طلعت باشا حرب .. الرجل الذي أحيى أمة.
طلعت باشا حرب ياولاد اتولد في حي الجمالية .. حي الجمالية ده حي من أحياء القاهرة القديمة العريقة .. اتولد في نفس اليوم اللي الخديوي إسماعيل افتتح فيه كلية الحقوق والإدارة .. اللي طلعت حرب بعد كده حيبقى واحد من طلابها.
والد طلعت باشا حرب مكنش عنده فلوس كتير .. كانت فلوسه قليلة شوية .. عشان كده (طلعت باشا حرب) عاش ظروف صعبة .. ورغم ظروفه الصعبة دي إلا انه اتعلم .. اتعلم في الكتاب وحفظ القرآن الكريم كله قبل ما يخش المدرسة.
اتخرج طلعت باشا حرب ومن شغلانه لشغلانة لشغلانة لغاية مابقي مدير في شركة (كومبو) .. شركة كومبو دي على فكرة شركة مهمة جدا .. وزيها زي كل الشركات المهمة كان بيتولى إدارتها الأجانب اللي عايشين في مصر .. لغاية ما طلعت باشا حرب كسر الحكاية دي واتعين مدير ليها .. ودي كانت النقلة الحقيقية في حياته.
تفتكروا بقي طلعت حرب باشا لما عمل الحكاية دي كان عنده كام سنة؟ .. يرد التلاميذ (25 سنة ، 30 يمكن؟) .. لا طلعت باشا حرب كان عنده (37 سنة) .. واللي حصل ده محصلش بالصدفة .. دا نتيجة جهد وتعب وشقا .. ورغم كده .. ورغم ان كان عنده 37 سنة إلا إن طلعت باشا حرب كان لسه بيبتدي.
ساعتها الإنجليز اللي كانوا محتلين البلد كانوا بيصدرو للشعب المصري .. إن المصريين دول مجرد شوية فلاحين .. لا ليهم في الصناعة ولا في التجارة ولا حتى يقدروا يديروا محل صغير .. والوظايف المهمة كلها اللي كانت موجودة في البلد كانت محجوزة للأجانب اللي عايشين في مصر.. لغاية ما جه رجل واحد بس وقدر يتصدى للفكرة دي.
سنة 1911 طلعت باشا حرب ألف كتاب اسمه (علاج مصر الاقتصادي) وبنى بنك للمصريين .. هنا بقى ابدت الحكاية تبقى أحلى وأحلى وأحلى .. تفتكروا ياولاد ايه اللي حيصل بعد كده ؟
يدخل مستر تيمور قائلا : معلش يا مستر عصمت الجرس ضرب .. الولاد لازم يمشوا !!!
عصمت : تيمور انت جيتلي في أهم حتة .. أنا قدامي 3 دقائق بالعدد .. اتفضل .. اتفضل.
يعود عصمت للحديث مجددا عن طلعت حرب باشا قائلا : سنة 1911 ابتدا طلعت باشا حرب يطلب من الأغنياء والأمراء انهم يساعدوه في بناء البنك بس للأسف رد الفعل كان وحش قوي .. يعني سخروا من طلعت باشا حرب واتريقوا عليه ونصحوه انه يركز في شغله .. وانه يسيبوا من الأحلام اللي هو عايش فيه دي، لأن الأحلام دي من وجهة نظرهم طبعا ممكن تضيعوه .. بس طلعت باشا حرب ما سكتش.
عندئذ يتوقف عصمت قليلا إلى أن دخل بعض أولياء الأمور الفصل لسماع القصة ، ويعاود عصمت حديثه الشيق قائلا: وأخيرا سنة 1920 نجح طلعت باشا حرب في انه يعمل بنك مصر .. كان بداية لمشروعات كتير عظيمة حصلت بعد كده .. وعموما طلعت باشا حرب قال بنفسه ان هو مش أول واحد يفكر في الفكرة دي .. بس لأن الموضوع ده كانت ظروفه صعبة جدا ومحتاج مجهود كبير فالتاريخ لا يذكر إلا اللي قدر يحقق الحلم.
وبعد إنشاء البنك بسنتين طلعت باشا حرب عمل أول مطبعة مصرية .. بعدها عمل شركة مصر للنقل لبري .. وبعدها عمل شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى .. وساهم في بناء النادي الأهلي المصري .. وكمان عمل ستديو مصر .. الاستديو اللي اتصورت فيه معظم أفلام مصر العظيمة .. وعمل شركة مصر للطيران .. وعمل شركة مصر للتأمين.
كل الشركات العظيمة دي اللي لغاية دلوقتي لسه بتجيب لمصر فلوس وعملة أسسها واحد بس .. طلعت باشا حرب .. عشان كده استحق وبجدارة لقب (أبو الاقتصاد المصري) .. بس برده رغم كل النجاحات اللي عملها طلعت باشا حرب دي إلا انه لما حصلت بوادر الحرب العالمية الثانية ناس كتير جدا من المودعين جريوا على البنك عشان يسحبوا مدخراتهم .. طلعت باشا حرب قلق وراح لوزير المالية طلب منه قرض من البنك الأهلي .. وزير المالية وافق .. بس طلب منه شرط .. وشرط صعب قوي .. اشترط على طلعت باشا حرب انه يستقيل من البنك .. تصورا بيشترطوا علية انه يمشي ويسيب حلمه.
وبأسلوب تشويقى طرح عصمت سؤالا: بس ياترى : طلعت باشا حرب استقال فعلا ومشي ولا فضل مكمل ورا حلمه ؟ .. ده بقى اللي حنعرفوا المرة الجاية.
دلال في لهفة : لا والنبي عايزين نعرفوا دلوقتي.
عصمت : لا خلاص حاقوله المرة الجاية عشان أنا شايف ان السادة أولياء الأمور عايزين يروحوا .. اتفضلوا.
وتدخل دلال مكتبها في قمة السعادة والفرح.
عصمت : بجد انبسطتي يا دلال ؟
دلال : بجد أنا انبسطت جدا جدا يا أونكل .. انت مشفتش الولاد كانوا عاملين ازاي وأولياء الأمور مبسوطين وسعداء ازاي.
عصمت : الحمد لله اني لسه فاكر التاريخ وفاكر الشرح الحمد لله.
دلال : انتي المفروض تشرح التاريخ ده على نطاق أكبر من كده مش بس في الفصل.
عصمت : أومال أشرح فين يعني ؟
دلال : معرفش يا أونكل .. لازم تبقى بتشرح في حاجة زي (السوشيال ميديا) أو كده .. انت مش شايف انت بتشرح ازاي يا أونكل .. انت بتشرح بطريقة مختلفة جدا .. انت خليتني أحب حصة التاريح .. وبسذاجة مفرطة: أنا بقيت باحب أونكل طلعت حرب جدا .. وحاموت وأعرف ايه اللي حيحصل بعد كده.
عصمت باندهاش كبير: أونكل طلعت حرب؟
دلال : أيوه !!!
عصمت : عموما أشرح فين غير المدرسة؟
دلال : ممكن نعمل فيديوهات مثلا على اليوتيوب .. ممكن الموضوع ده يكون مالي الدنيا كلها .. كل الناس تتفرج عليها .. مش بس الطلبة.
عصمت : تصدقي الفكرة دي جات في دماغي زمان !
دلال : طب ومعملتش كده ليه ؟
عصمت : يعني اتشغلت معاكم في المدرسة وكده .. خلاص انتي شجعتيني وحاعملها.
دلال : أيوه
عصمت: خلاص حاعمل كده.
وينتهي المشهد بموقف كوميدي صارخ عندما قالت دلال بسذاجتها المعهودة : أونكل طلعت حرب حيعمل ايه ؟
فيرد بدناهش مصحوب بابتسامة مكتومة تنم عن غيظ : مين؟!!
ينتهى هذا المشهد الرائع الذي يوحي لنا بفكرة أن يقوم مدرسي وأستاذة التاريخ بالحكي بأسلوب مشوق عن تاريخ مصر القديم والحديث على اليوتيوب، بدلا من حكي غير المتخصصين المجتزأ وتزييف المعلومات بطريقة مستفزة مثل (ريهام عياد) التي تعبث بتاريخ مصر ليل نهار.