بي بي سي .. السقوط (الحتمي) للاستعمار (المُحَبَّبْ) !
بقلم : سعد سلطان
مُنِحَتْ الـ (بي بي سي) سُلطات هى ذات الصلاحيات الممنوحة للقوى الكبرى، فامتلكت من عوامل القوة (المهنية والمالية والمعلوماتية) ما جعلها تفوق نظرائها وتتربع القمة زمن الصعود، ولكن الراصد لنشأة المؤسسات الإعلامية على نبأ بتاريخ الإقفال، ويدرك آنذاك أنه حينما تستعمل مؤسسة ما قوتها إلى أقصى حد تستهلكها بنفس المقدار، وتلك إشارات فشل وعلامات سقوط (الخدمة العربية الإذاعية) منذ إطلاقها ما يسمى (الربيع العربي) حتى اليوم، وهى تسحب من رصيد (بي بي سي)، بانحيازها التام للجماعات الإسلامية واليسارية والثورية، وكأنها منبر من منابر حزب (الدعوة) والحوثي أو (الإخوان المسلمين)، أو (جماعات الفيمنست) والتيارات اليسارية الراديكالية الفوضوية.
هذا ما كتبه مشاري الزايدي، وأزيد عليه قولا إن (متطرفين شاهدهم العالم ليسوا مقاتلي حرية بل آكلو قلوب وذبَّاحون وتجْار سبايا ومجاهدو نكاح مهووسون باللذة المحرمة .. كانت البي بي سي مالكة حصريا لحتي ما سيقومون من إرهاب.
حملت (البي بي سي) شاشات وإذاعات وبودكاست ووثائقيات، ادعاءاتُ بريطانيا الإستعمارية بكل صراحة، ومارست الطمس الإعلامي بكل فجاجة على حقوق دول وسيادات شعوب.. (الناس الأبرياء الذين قُتلوا في لندن كانوا ضحايا جليلة القيمة.. الناس الأبرياء الذين قُتلوا في العراق ضحايا غير جليلة القيمة)، هكذا يصف (جون بلجر) سياسة تحرير غرفة الأخبار بالمؤسسة الإعلامية الأشهر.
لا تتلعثم الـ (بي بي سي) في نحت المصطلحات المُضَلِلة، فالإرهابيون في سيناء تراهم (مقاتلون) والتنظيم تنعته بـ (مايسمى داعش)، وهي لا تجرؤ على طرح سؤال (الدواعش ..صَنيعةُ من ..؟)، فالإجابات سترتد عليها، ولذلك تُفّوت عن عمد ما أُذيع بقنوات كبرى الأسبوع الماضي (أُسَرْ دواعش تعود إلى استراليا)، تلعب الـ (بي بي سي) دور ذلك الضابط في فيلم سينمائي اختصر وظيفته المخابراتية في منع (التفكير السائد) من الربط بين عناوين الأخبار المتناثرة، ذلك الربط الذي يُمَكِنك من الحقيقة.. تستحق الـ (بي بي سي) محاكمة كبرى من صُنَّاع الإعلام في العالم الذي عانى ويلاتها وويلات بلادها..محاكمة على (الإستعمار الاستحماري الذي مارسه الاثنان).
ترى مديرة خدمة (بي بي سي) العالمية ليليان لاندور – في تصريحاتها حول أسباب إغلاق إذاعة الـ (بي بي سي) – أن (الدور الذي تضطلع به بي بي سي عالميا لم يكن ذات يوم أكثر أهمية منه الآن)، مضيفة إن (بي بي سي) محلّ ثقة مئات الملايين حول العالم نظرا لما تحرص عليه من مهنية فيما تقدّمه من أخبار، لاسيما في دول تعزّ فيها المهنية..!)، هذا تأسيس غبي لما هو قادم، وغرور مهني لاينبئ بإصلاح، ويبشرنا أن الإقفال سيطول الشاشات وباقي الإذاعات، فالـ (بي بي سي) كمؤسسة بريطانية مشحونة سياسياً في داخلها، يتجاذبها المتنافسون المنتمون للأحزاب، وصراع لا يتوقف بين اليساريين والمحافظين.
وتتابع قائلة: (يتزايد التحدي الذي يكتنف عملية الوصول إلى الناس حول العالم بصحافة موثوقة وذات جودة)، هي لا تريد أن تجيب عن السؤال المطلوب إجابته من الرأي العام العالمي الذي تجنت عليه قرنا: لماذا أُغلِقت أشهر إذاعة عربية أسستها الحكومة البريطانية لتكون أول لغة أجنبية لشبكتها الـ (بي بي سي)؟، لأنها تعرف أن السؤال التالي: من أين لكم الحق في إنشاء تلك المؤسسات بالأساس؟، ولماذا لم تبدأ عام 1938 بلغة الهند، كبرى مستعمرات التاج، أو بالفرنسية، والألمانية المنافستين لها؟، لأن حرب النفوذ على الموارد والمستعمرات هى الدافع الأول للبريطانيين لافتتاح أولى محطاتهم بالعربية، بينما تستغبانا المديرة وتعدنا بمزيد من الصحافة (الموثقة) وتتجاهل اتهامات طالتها وقضايا طاردتها من عواصم عربية بسبب أفلام فاقدة الاحتراف الوثائقي فأهانت شعوبا ومَستْ عادات وحقَّرت من تقاليد.
يتفاخر متطرفوا القناة بتحقيق استقصائي استغرق 10 أشهر، صور خلالها رجال دين بكاميرا مخفية مع نساء تعرضن للاستغلال الجنسي في العراق (قناة حولت المنهج الوثائقي إلى صحافة صفراء)، يكفي أن تكتب (تزييف الحقائق)، لن يتأخر محرك البحث فيمتو ثانية وسيكمل إنها الـ (بي بي سي).. يصْدق عبد الرحمن الراشد فيما كتب (ما يقال عن هيمنة الأصوات المتطرفة في الإعلام الأجنبي العربي ليس ببعيد عن الحقيقة، ويعود إلى قلة الأصوات المعتدلة، وغلبة الخطابات الرسمية الدعائية غير المقنعة).
تمكنت هذه المؤسسة قرنا من ارتهان الرأي العام العالمي وسحب الرأي العام العربي مجرورا ورائها، ومع استهلاكها كافة مصادر المصداقية واستنفاذ موارد المهنية كان سقوطها من فوق عرش الإمبراطورية الإعلامية العالمية متوقعا وحتميا، حتى أنها غابت في العقدين الأخيرين من حسابات الدراسات الإعلامية بعد أن كانت صياغتها الإخبارية أداة تدريب لطلاب المهنة ودراسيها، وتصدرت انحرافاتها المهنية ساحات المحاكم البريطانية قبل العالمية.
أي محنة أخلاقية يعيشها هؤلاء الحزانى على إغلاق الـ (بي بي سي)؟!، ذلك الإغلاق الذي ندرت عناوين الإشادة به من قبل ممارسي وصناع الإعلام الحر في العالم.. إغلاق مثَّل نهاية عقود من (الاستعمار) وصفه صحافي بـ (المحبب)..!
(ليس في فم (السوخوي) التي تدك رؤوس دواعش الـ (بي بي سي) سوى النصر.. أستطيع الآن الجلوس في مكتبي أشرب قهوتي وأحس طعمها اللذيذ، بينما أتابع – بشغف – مسار غواصة (يوم القيامة) الروسية وهى في طريقها إلى بريطانيا التي تهالكت إمبراطوريتها وتهاوت عظمتها.. فيما مضى كنت أشرب ألف فنجان وأشعر بماء البحر يملأ حلقي غصة وألما.. وأنا أتابع شريط أخبار الـ (بي بي سي) وهو أول من يبث عن مصادر مخابراتية بريطانية أن قنبلة وراء انفجار الطائرة الروسية بشرم الشيخ.. إنها حقا سخرية الأقدار أن يصبح فنجان قهوة بنكهة السوخوي وغواصة يوم القيامة يعادل ألف فنجان من بحيرات اللغة التي صارت مالحة كماء البحر)..!
يملأني قرار الإغلاق سعادة ونشوة وغرورا.. وفي انتظار من يُبشرني بآخر فرد مغادر لغرفة الأخبار حتى أبلغه بضرورة إطفاء الأنوار المضاءة (على الفاضي) توفيرا لطاقة يحتاجها البريطانيون بدلا من صرفها على مؤسسة يديرها مجموعة من الحمقى الأغبياء.