بقلم : محمد شمروخ
بالقرب منى دار حديث ساخر بين اثنين من الأصدقاء يجمعان بين العمل الصحفي والتلفزيوني، عن الحوار الوطني وأن السادة المتحاورون أصبحوا كرجال الحكومة، يبعدون قدر الإمكان عن الصحافة والإعلام تجنبا لوجع الدماغ.
ومع أنهما لا يبدوان مهتمين كثيرا بالسياسة، إلا لهجة السخرية كانت محبطة!
وضبطت نفسي وأنا أجدنى غير مهتم تماماً بهذا الحوار ولا ما يمكن أن يحققه من أهداف، ولأنى لا أمارس السياسة لا تنظيميا لا تنظيريا ولا يزيد نشاطى فيها عن بعض الآراء تجاه الأحداث المحلية او العالمية في صورة رؤى مبعثرة هى أقرب للثرثرة وملء الفراغ الواقع. او الافتراضي.
لكن الأمر الأكثر مرارة هو أنى شعرت بأن هذا هو موقف الإعلام المصرى عامة بكل تشكيلاته الظاهرة حكومى.. شبه حكومى – خاص – قومي – سوشيال، وليس موقفى وحدي، وما يتطرق له الإعلام ليس غير نوع من ملء هذه الفراغات أيضا وليس تقييما أو تحليلا او تصورا عن أشكال ممارسة العمل السياسي المحترف.
يعنى نفس الموقف تماماً، ثرثرة وملء الفراغ بانفعلات مسرحية أكثر منها حقيقية، ثم لا ثلبث الحياة أن تشغلنا بما هو واقع حقيقي وليس للثرثرة الافتراضية.
وما سمعته أصابنى بالقلق، ذلك لأن سخريتهما التى لم أستغربها، جعلتنى أفكر بجدية في طريقة تناول أو مراجعة الواقع السياسي الحالى، فحتى الآن لا توجد كيانات حزبية أو شبه حزبية، يمكن أن تسد كلها أو بعضها، الهوة الهائلة التي حدثت إثر سقوط الحزب الوطني وتدمير مقراته إثر ثورة يناير 2011.
هوة لا ينكرها غير مكابر، خاصة على المستوى الشعبي الذي يصارع الواقع اليومى بعيدا عن تنظيرات النخب الثقافية وحساباتها الغامضة!
ولابد أن نعترف أنه حتى الآن لم تخضع تجربة الحزب الوطني كحزب حاكم للتحليل العلمى والدراسة البعيدة عن الملاحقة السياسية، فما يتم تناوله تجاه فترة الحزب الوطني الماضية بكل ما حملته، منذ تأسيسه على يد رئيس الجمهورية وقتها الرئيس السادات، وحتى سقوطه الصاخب في 2011.
وكثيرون من ذوى النظرة الواقعية يعرفون جيداً أنه في الحقيقة لم يكن الحزب الوطنى إلا إعادة تشكيل لحزب مصر الذي لم يستغرق كثيرا بعد إعادة توليد التجربة الحزبية منذ إلغاء الأحزاب إثر قيام ثورة يوليو واعتبار الأحزاب شكلا من أشكال العهد الملكى البائد.
وحزب مصر نفسه كان على قصر عمره واحدا من سلسال المواليد منذ أن تم إنتاج الإتحاد القومى فالاتحاد الاشتراكي بعد ثورة يوليو.
والواقع الآن يحدثنا أن سلسلة المواليد قد انتجت أجيالاً انطبقت على قوانين الوراثة في ازدياد وتيرة الضعف، فحتى هذه اللحظة فشلت كل القوى السياسية على مختلف انتماءاتها، في سد الفراغ الذي خلفه كوادر الحزب الوطني على الرغم من أن كثيرا من ربائنهم حاولوا إعادة توليده عبر أكثر من تجربة حزبية ولكنها جميعها تفشل في سد هذا الفراغ!
لكن ربما كان تسارع عجلة الأحداث الجارية على كل المستويات مع توالى الصدمات قد شغلنا عن حقيقة في غاية الأهمية وهى أن البلاد تخلو من تنظيم سياسي ذي قاعدة جماهيرية كبيرة، كذلك انعكس الأمر على المعارضة الحزبية، فليس هناك حزب قادر على المنافسة.
ولا يمكن أن تظل الجهات الإدارية والأمنية، هى المسئولة عن ملء هذه الفراغات، فذلك يعرض الدولة في جهازيها الإدارى والأمنى، لمشاكل هى من اختصاص السياسيين الذين كانوا يشكلون وسائط تمتص الصدمات بين الجماهير والدولة.
لكن ربما مازال هناك خوف أن تتوجه سهام جديدة نحو أى كيان سياسي جماهيرى كبير يخرج إلى أرض الواقع لممارسة أفكاره وأطروحاته السياسية وإن كان هناك كيانات، فهى تخضع لتوجيه سلطة الإدارة الحكومية و.
هناك فرق كبير بين الحاكمين وبين الحزب الحاكم، وفيما يبدو أن هذا الفرق يتم تجاهله حتى لا يجد ما يمكن أن يشكل الحزب الحاكم نفسه في مواجهة مع الجماهير بسبب الإرث الذي تركه بعض العناصر الفاسدة في الحزب الوطنى السابق أو لأى أسباب حتى لو لم تكن تلك المواجهة على احتقان يجب تلافيه والواقع أن حالات التنمر السياسي قائمة بين الجميع وهو ما يؤدى إلى تفضيل الابتعاد قدر الإمكان عن العمل السياسي التنظيمى.
ولكن كان نتيجة هذا انتشار حالة من الفتور السياسي التى يمارسها المصريون الآن وهى لم تكن إلا هروبا من تكرار هذه الأزمة التى سوف تدفع مصر ثمنها لأجيال عدة قادمة.
حقيقة الأمر أن هناك ما يمكن ان نطلق عليها (انسحاب سياسي) من جانب كثيرين من أهل الخبرة السياسية الحقيقية، مع الاكتفاء بالمشاركة غير المباشرة بالثرثرة اليومية والشكاوى التقليدية – على اختلاف وتيرتها – بإثارة قضايا تتعلق بالواقع المعيشي كالأحاديث عن ارتفاعات الأسعار وفروق الدخول ومظاهر الفساد الإدارى الجمهور السياسي، يقابل ذلك بتنظيرات مضحكة ورؤى هشة يموج بها ملايين الخبراء على مواقع التواصل الاجتماعي من تويتر وفيسبوك في كل مجال، لكن هذا ليس ممارسة سياسية، فكل ذلك الضجيج يحول مجراه تراه فجأة الى أى قضية أو أى حدث فترى التصاعد بنفس درجة الهبوط وهذه هي أهم ملامح الثرثرة.
لا أدرى هل يضع الحوار الوطني هذه الملاحظات في اعتباره، أم أن المشاهد سوف تبقى احتفالية ومناسبة للتعارف وقضاء أوقات تصلح لإثارة الذاكرة فيما بعد بأحاديث الذكريات!
ولا أدرى ما ستكون عليه نتائج الحوار الوطني، لكن ما أرجوه ألا تكون حوارات ثرثرة تنتج كيانات لا تسمن ولا تغني من جوع سياسي قد يتبع حالة البرود وهذا الجوع قد تستغله قوى متربصة كانت قد لعبت – ومازالت على استعداد للعب – ولعل هذه الحقيقة لم تزل ماثلة أمام الجميع ولا تلههم جداول الأعمال عن سبل مواجهتها!