بقلم : محمد شمروخ
هل يمكن أن ينتصف القرن الواحد عشرين بدون وجود قوة كانت عظمى يوما ما اسمها (بريطانيا) التى (أخنى عليها أناخ على الخورنق والسدير) كما يقول شوقي في رثاء الامبراطورية العثمانية وهى في طريقها إلى الزوال؟!.
والآن لم يتبق منها سوى رموز أقرب إلى طقوس العقائد الوثنية، تيس ملكى وصخرة تتويج وجوهرة بالتاج!
وكما شهدنا منذ بضع وثلاثين سنة نهاية إمبراطورية الاتحاد السوفيتى، قد نشهد قريبا وقبل مرور عقدين من الزمان أو على الأكثر ربع قرن، نهاية مملكة كانت تدعى يوما (بريطانيا العظمى)، لتصبح عدة ممالك صغيرة أو إمارات هزيلة أو جمهموريات ناشئة تسبق أسماء إنجلترا وويلز وأسكتلندا.
وبالأمس كدنا نشهد انفصال إسكتلندا عن المملكة المتحدة لتنفصم عرى جزيرة بريطانيا لأول مرة منذ عام 1707 عندما أتحدت اسكتلندا وإنجلترا تحت عرش الملكة (آن ستيوارت) التى اتخذت بريطانيا على عهدها اسم بريطانيا العظمى!.
ومازال العرش البريطانى تتسع رقعته في العالمين بحرا وبرا حتى امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها وورثت ممالك العالم لا ينازعها منازع إلا ودكته مدافع أساطيلها، وبعد أن وطدت سلطانها في العالم الجديد لاسيما أمريكا الشمالية واستراليا، اتجهت لغزو العالم القديم في الهند وشرق آسيا ومصر والسودان وجنوب إفريقيا وعمقها وبعض سواحلها، حتى فاخرت بأنها صارت لا تغيب عنها الشمس!.
وعلى أيديهم صار العالم إنجليزيا، بل دفع الغرور بعضهم للقول بأن (الرب إنجليزي).
ولما ماتت الملكة إليزابيث الثانية في سبتمبر الجارى، وشاهدنا مرسم تشيعها على شاشات التلفزيون، تركت سلطة فعلية على الجزيرة البريطانية الكبرى وشمال إيرلندا، نجت بأعجوبة من التفكك.
لكن التفكك مازال يهدد بريطانيا، حتى أن (ويلز) تفكر بجدية في الانفصال على خطى أسكتلندا التى وافق 45% من سكانها رسميا على الانفصال في استفتاء رسمي ولولا ال5% لتقلصت المملكة وانقسمت الجزيرة.
فماذا لو عاد مشروع انفصال أسكتلندا، خاصة وأن هناك نداءات قوية باقية بين الأسكتلنديين بإعادة الاستفتاء، في ظل تهديد اقتصادى مع هبوط الأسترليني وأزمات قادمة كقطع الليل المظلم على بريطانيا وأوروبا والعالم كله!
أما (ويلز) فحالها حال، فبالرغم من صغر مساحتها وقلة سكانها إلا أن وضعها له قيمته الكبرى كضلع ثالث مكمل لمثلث الجزيرة البريطانية، خاصة أن الملك الحالى (تشارلز الثالث) كان أميرا عليها مع ولايته العهد، وقد لاقاه بعض أهل ويلز بغير ما يشتهى فجاهروا برفضه ملكا عليهم علانية!
فما الحال لو انفصلت ويلز وأسكتلندا وحتما ستأتى وراءهما أيرلندا الشمالية بكل ما تحمله من تاريخ محتقن بالخلافات الدموية والدينية؟!
حتما ستتبعها بقية أجزاء المملكة المتحدة التى تكاد تكون سلطة العرش البريطانى عليها صورية أو فعلية في كندا ونيوزلندا وبعض الجزر فيما وراء البحار مع مجموعة الكومنولث!
إذن فتشالز الثالث قد يكون الملك الأخير ولعل ذلك لا يعنيه كثيرا، فهو نفسه كان على استعداد للتضحية بهذا العرش في سبيل زوجته الحالية والتى لو لم تتوج ملكة بجواره لربما رفض ارتقاء العرش مكررا قصة عم أمه (إدوارد الثامن) في قصته الشهيرة مع (مسز سمبسون) في نهايات ثلاثينيات القرن الماضي!.
بل والملك نفسه ذو الثالثة والسبعين من العمر، ما عساه يفعل في مملكة يملك فيها ولا يحكم، فمنذ رحيل جد والدته القوى الشكيمة الإمبراطور (جورج الخامس)، لم يعد الجالس على العرش بالقوة نفسها ولما تولت (إليزابيث الثانية) عرشها في سنة فبراير 1952، كانت بريطاني قد تراجعت عن صدارة العالم تحت وطأة قوة صاعدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى اسمها الولايات المتحدة الأمريكية، كانت رسخت وجودها كقوة أولى بانتصار حاسم بواسطة قنبلتين نوويتين في الحرب العالمية الثانية، بل وصارت المنافسة مع قوى ثانية تدعى بالاتحاد السوفيتى، فارتضت بريطانيا بالمركز الثالث بتحالف أمريكى جعل بريطانيا تحافظ على مركزها العالمى.
فالأمريكان رغم تعدد عرقياتهم وثقافاتهم، إلا أن الإنجليزية ظلت كلغة وثقافة هى سيدة العالم وأولى مرجعياته والذي اصطبغ، رضاءً أو قسرًا، بـ (الأنجلو سكسونية) حتى إسرائيل التى تواطأت بريطانيا (المملكة المتحدة) وأمريكا (الولايات المتحدة) على قيامها لتدور في هذا الفلك الأنجلو سكسونى وتتخذه نموذجا كمدنية وثقافة وأسلوب حياة قبل شريعتهم وعقيدتهم اليهودية نفسها!
لكننا هنا في مصر كإعلاميين ومثقفين رغم كل ذلك، انبهرنا وشغلنا بمراسم جنازة (إليزابيث) وإجراءات العزاء والنظام والبهرجة من الموتة إلى الدفنة.
ولا أدرى ما الذي جعل بعض الإعلاميين من مسحوبي اللسان لدينا لم يعلقوا على هذا المط والتطويل والتعقيد في الجنازة ونراهم احترموا تقاليد العرش البريطانى حتى أن أحدا لم يوجه انتقاد لكل هذه المظاهر الاحتفالية التى ودعت (إليزابيث) وكأنها واحدة من ربات الأساطير الإغريقية بعثت من جديد لتموت بيننا الآن.
أترانا نحترم تقاليد وعادات وعقائد غيرنا، بينما لا نكف عن محاولات زعزعة وهدم أصولنا؟!
لماذا لم يتكلموا مثلا، عن (التيس الملكى) وهو برتبة عقيد في الجيش وبالتحديد الكتيبة الثالثة مشاة بالحرس الملكي؟!
العجيب أن لهذا التيس ممتلكات خاصة وتجنيد التيوس تقليد ملكى يرجع إلى الربع الأخير من القرن الثامن عشر!
وكيف لم يسخروا من حجر التتويج الملازم لإجراءات تنصيب الملك؟!
ولم يتساءل أحد ولو على سبيل المعرفة عن جدوى هذه الإجراءات والإلتزام الصارم بكل خطوة في الجنازة والقداسات الملازمة لها والدفن وعملية نقل التاج، كلها بدت كمظاهر أقرب للقرون الوسطى؟!
لم يتحدث أحد عن علمانية وليبرالية مع كل هذه المظاهر الدينية التى طغت على المشاهد الجنائزية؟
ترى لو كان هذا التيس سعودى أو بحرينى أو كويتى أو مغربي، ولو برتبة (صول) فماذا سيكون موقف الإعلام العربي والمصري على الخصوص؟!
لا أحدثك عن الحجر المشهور بحجر القدر والملازم لطقوس التتويج الملكى منذ عدة قرون؟!
(إيه يا سيدى.. ما هو فيه ناس متمسكة بتقاليد وثنية ومحدش بيفتح بقه)!
فلم يناقش أحد مستقبل أشهر إمبراطوريات التاريخ والجغرافيا على كوكب الأرض وهى تقترب من حافة الانهيار، حتى أنه لم يقف أحد أمام موقف رئيسة وزراء بريطانيا نفسها والتى لم تقض سوى ساعات بعد تكليفها من (إليزابيث) وهى كانت تعارض الملكية في حياتها ومسجل ذلك كعلامة سوداء في تاريخها السياسي، بجانب تاريخها الأخلاقى الذي قيل إنه لا يقل سوادا!
هل خاف الإعلام العربي والمصري من سطوة بريطانيا؟!
أم تراه طغيان الجهل والسطحية وروح العداء المسلطة تجاه أنفسنا؟!
صدق.. انتظرت أن يثير الإعلام المصري (لا اتحدث عن الإعلام الرسمي المكلوم بمشاكله)، لكن أقصد الإعلام الطاغى على ليل المصريين في قنوات وبرامج نعرفها جيدا تتربص بكل شيء ولا تفوت شاردة ولا واردة ولكنها أسقطت من حساباتها مناقشة حقائق قائمة عن مستقبل مظلم يواجه بريطانيا ومن ورائها العالم واستغرقت في سطحياتها الفارغة بقضايا صارت تافهة ومملة، كذلك لم نسمع لها همسا تجاه كل تلك التعقيدات الفارغة في إجراءات جنائزية تعمدت إظهار البهرجة والإبهار مثل توهج شمعة توشك على الانطفاء!