بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
لم يكن خبر فوز الفنان الرائع أحمد أمين بجائزة أفضل ممثل فى مهرجان القاهرة للدراما مدهشا لى، بالرغم أنه فاز عن دوره فى مسلسل (جزيرة غمام للكاتب) الكبير عبد الرحيم كمال الذى يبتعد تماما عن مساره المعروف عنه وهو الكوميديا ، و بالرغم من فوزه بالجائزة وسط نجوم كبار لهم فى عالم التمثيل سنوات من الخبرة و التنوع شاركوا بأعمالهم فى المهرجان.
و سر عدم دهشتى – بل و توقعى للجائزة – هو إجادته لدوره فى مسلسل (جزيرة غمام) ، حاجزا لنفسه مكانا وسط ( قلة ) من الممثلين الكبار عن حق و عن جدارة ، و لم تكن تلك سابقته الأولى ، فقد فعلها من قبل فى مسلسل (ما وراء الطبيعة) المأخوذ عن أعمال الكاتب الكبير أحمد خالد توفيق ، و الذى أنتجته منصة (نتفيلكس) كأول مسلسل مصرى تقوم بانتاجه و يقدم عليها حصريا ، و قام فيه (أحمد أمين) بدور رفعت إسماعيل بطل تلك السلسلة الشهيرة و هو الدور الذى يبتعد أيضا عن مساره.
فمنذ عامين تقريبا كتبت هنا مقالا يحتفى بموهبة الفنان (أحمد أمين) ، و لم أكن فى مقالى السابق معنيا بمدى التشابه فى الملامح بين الممثل و شخصية (رفعت إسماعيل) التى يتخيلها القراء على هواهم ، و لكننى معنيا بمدى إجادته فى تقديم الشخصية على المستوى النفسى و الجسدى ، فالمعروف عنه أنه كوميديان ، و دائما ما يستخف الناس بالكوميديانات كممثلين قادرين على تجسيد شخصيات مركبة . ربما لميراثنا عن فكرة (المضحكاتى) أو ربما للأثر الفكرى الذى تركه لنا ( أرسطو ) من أن الكوميديا فن من الدرجة الثانية – عكس التراجيديا – و انعكس هذا على نظرتنا لكل ما يتعلق بالكوميديا كتابا و ممثلين ، و لكن ( أمين ) استطاع إثبات خطأ تلك النظرة ، و قدم لنا شخصية (الدكتور رفعت اسماعيل ) المركبة و المتناقضة ببراعة شديدة و استطاع توظيف أحاسيسه و لغته الجسدية و طبقات صوته لصالح الشخصية فى مواقفها المختلفة و تناقضاتها الكثيرة و تقلباتها المفاجئة مابين السخرية و المرارة المغلفين بالحزن و التشاؤم ، و ما بين الثقة المفرطة فى العلم و سيطرة الخرافة على كل تفاصيل حياته.
و يعود ( أمين ) مرة أخرى بعد عامين ليقدم لنا عرفات ( ذلك الولى الصالح ذو الكرامات و هو لا يدرى ) و برغم أن الشخصية تبدو غير واقعية و هى من الشخصيات ( حاملة الأفكار ) التى دائما ما تحمل أفكار الكاتب و تعبر عن رسالة العمل ، إلا أن أمين لم يسقط فى شراك النمطية فى تقديم شخصية الولى أو المجذوب بل استطاع أن يقدم لنا شخصية من لحم و دم ، و ألبسها ثوبا من الصدق الشديد ، و كأنه يعزف بجسده مشاعر الشخصية و يرسم بصوته أحاسيسها ، و كانت نظرة عينه كافية – فى مواقف كثيرة – لترجمة إحساس الشخصية الداخلى الذى يكمن بين سطور المؤلف ، و هى قدرة لا تتوافر إلا لكبار الممثلين.
و الحق أقول أن معرفتى الطويلة بأمين جعلتنى أثق فى موهبته و أنتظر منه الكثير منذ اللحظة الأولى الذى رأيته فيها فى نهاية التسعينات ، فى عرض مسرحى من اخراج صديقى المخرج الكبير (خالد جلال) بمسرح الطليعة . فى تلك الليلة انتظرته طويلا حتى خرج لكى أهنأه على موهبته ممثلا و عازفا على آلة الكمان فى العرض، و طلبت منه أن ينضم إلى ورشة كنت أقيمها لتقديم عمل مسرحى ، و خلال تلك الورشة علمت أنه خريج كلية الفنون الجميلة و مارس التمثيل فى (أتيليه المسرح) وهى إحدى فرق التمثيل الجامعية الشهيرة وقتها ، و زاد إعجابى به : ممثل وعازف و فنان تشكيلى و يمارس الثلاث مجالات بمهارة و إجادة ، فقررت تبنيه فنيا ، و لكن للأسف توقفت الورشة لأسباب خارجة عن إرادتى و اختفى ( أحمد السيد أمين ) كما كان معروفا وقتها.
بعدها بسنوات طوال قرأت اسمه كاتبا لمسلسل كارتون فسألت عنه و علمت أنه ترك التمثيل و يعمل بإحدى مجلات الأطفال ، و لكنه يكتب أحيانا ، و هكذا أضيفت له موهبة جديدة ، ثم التقيت به مصادفة و قد جاء يشاهد زملائه السابقين بالكلية ( ماجد الكدوانى و بيومى فؤاد ) فى عرض من إخراجى ، و عندما رأيته لم أستطع سوى أن أقول له إنه لو استمر فى التمثيل لوقف بجوارهم الآن.
و فجأة عاد إلى التمثيل و لكن من خلال اليوتيوب فى فيديوهاته الشهيرة ( فى 30 ثانية ) التى صادفت نجاحا كبيرا و شهرة عريضة فى هذا المجال ، بعدها قدم برنامج (البلاتوه) فى عدة مواسم ، ثم توالت الأعمال الكوميدية لتضع (أمين) على قائمة النجوم – فى مسار خاص اختطه لنفسه – مستعرضا قدراته فى الكتابة و التمثيل و الغناء و العزف على عدة آلات بمهارة فائقة ، و كأنه واحد من هؤلاء الكبار الموهوبين فى مجالات عدة مثل (شارلى شابلن و آدم ساندلر و عبد الرحمن الخميسى) و غيرهم. و برغم أنه يهتم فى كل أعماله بأدق التفاصيل ، و يحرص على الإجادة باذلا أقصى جهده ، لكنه يظل الفنان القلق دائما الذى لا يرضى أبدا عن نفسه.
و لم يبق ( أمين ) طويلا على ضفة الكوميديا ، فانتقل إلى الضفة الأخرى على جناح ( ما وراء الطبيعة ) ، ثم يعزز مكانته فى ( جزيرة غمام ) و لذا أعود اليوم بعد الجائزة لأكرر له قولى بعد كل عمل يقدمه : يحق لك اليوم أن ترضى عن نفسك ، ولكنى مازلت فى انتظار المزيد منك يا صديقى الموهوب بزيادة . فمازلت تملك الكثير و قادر على إدهاشنا دائما.