كتب : محمد حبوشة
سؤال قد يبدو فجا في طرحه، ولكن: هل باتت الجريمة (عرفا) في مسلسلات المنصات؟، هل هو تعطش الجمهور العربي لروائح العنف أم أنها رغبة السوق والمنتجين؟، ترد الكاتبة السورية (سلام كسيري) مؤلفة مسلسل (العين بالعين) على السؤال بسؤالين: (لم لا؟)، هل علينا مثلا تقديم الكوميديا دون غيرها فقط لأننا نعاني تفاقم المآسي؟، نعم الجمهور العربي يهوى التنوع ومشاهدة جميع أنواع الدراما بما فيها الأكشن، في مسلسل (العين بالعين) حاولنا توصيف مواضيع تخص عمق واقعنا العربي ضمن قالب الحدث السريع وأسلوب الإثارة، وأنا معها تماما في وجهة نظرها، خاصة إذا كانت الدراما تتعرض لأمراض الفساد الضارب بجذوره في المجتمع اللبناني، فعلى الرغم مما يعانية اللبنانيين من ويلات الانقسام السياسي وتدهور الحالة الاقتصادية التي تعصف بشعب الأرز الآن، إلا أن الفساد مازال يطل برأسه مستغلا حالة الضياع والانهيار الرهيب.
يخفق قلب (سيرين عبد النور) وهى تتحدث عن شخصية الصحفية الاستقصائية (نورا) والتي ترى أن الدور شبيها بواقع لبناني يغلب فيه الفساد والمحسوبية على الضمير، حيث تلاحق من خلال دورها الذي جسدته ببراعة ورشاقة بعض ممن تورطوا في ارتكاب جريمة قتل العميد (غسان) وأيضا من الشرطة، وتتهم بأنها طرف باقي تفاصيل القصة، ومن ثم ترى أن دورها هو بمثابة رد اعتبار للمظلومين ومن ماتوا قهرا ولم تتحقق العدالة: (في لبنان، الأمثلة كثيرة، أقدم شخصية ألمح فيها بعضا من كياني، إنني كنورا، أقول الصدق ولو كلفني غاليا. لا أخاف، الهدف أهم من الخوف).
من خلال مشاهدتي للحلقات الـ 15 من المسلسل أستطيع القول بأن شركة الصباح نجحت بامتياز خلال الفترة الأخيرة حين ركزت في مسلسلاتها على هموم وقضايا المجتمع اللبناني، ولو على جناح الدراما التي تعنى بالإثارة والتشويق وفي القلب منها ذات الطابع البوليسي التي أصبحت صاحبة السبق في التصدي لقضايا الفساد والمخدرات ودخول الممنوعات على مجتمع يعاني بالأساس من أزمة اقتصادية حادة، ومن ضمن تلك المسلسلات (العين بالعين) الذي يأتي في أعقاب مسلسل (من إلى) لكشف أوجه الفساد الذي يعاني منه اللبنانيين، ويثبت أن هنالك مافيات ماتزال تتحكم في مقدرات ومصير هذا الشعب الذي يمر بأكبر أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث.
(العين بالعين)، تدور أحداثه في إطار درامي تشويقي، عندما تبدأ القصة حين تقوم بطلة العمل الملقبة بـ (نورا/ سيرين عبد النور) والتي تعمل كصحفية استقصائية ومصورة فوتوغرافية بالاتفاق مع سيدة بهدف توثيق خيانة زوجها لكن الأحداث تذهب باتجاه جريمة قتل حيث توثق (نورا) جريمة القتل من جانب (راجي/ طوني عيسى)، لتنقلب القصة عليها وتصبح موضع شك حين تبدأ الشرطة بالتحقيق لاكتشاف القاتل، بعدما وثقت كاميرات مكان الجريمة دخول وخروج نور خلال توقيت الجريمة.
تراكمت الأحداث في مسلسل (العين بالعين) منذ الحلقة الأولى بشكل قلما نشهده في الأعمال البوليسية، وبالأخص مع مقتل (ممثل) هو وحسب مجريات الأحداث من أبطال العمل (يوسف حداد) بشخصية رجل الأمن العميد (غسان) الذي تشك زوجته الممثلة العائدة بعد غياب (كريستين شويري)، تشك بعلاقاته النسائية وتقوم بتكليف من يراقبه (المصورة نورا فارس) أو النجمة سيرين عبد النور، والأخيرة تصبح ملاحقة من قبل الرائد (عزام/ رامي عياش) وبنفس الوقت من القاتل – المتوفي في سجلات الدولة (راجي/ طوني عيسى)!، وفي هذا السياق تتوالى أحداث المسلسل حيث نتعرف على أساليب ملتوية لدى بعض العاملين في الصحافة الاستقصائية مع تجاذب بين زميلين (سيرين ومجدي مشموشي) بعد أن تتورط الأولى بتصوير جريمة القتل، بينما كان كل ما تريده هو الحصول على دليل خيانة تقدمه لزوجة الضحية، وهنا تتوجه أصابع الاتهام بالقتل نحوها، خصوصا مع فقدانها للكاميرا التي وثقت بها الحدث.
وظني أن هذا السرد البسيط والأولي كما تابعناه في الحلقة الافتتاحية، يكفي بالفعل لجعل العمل الذي تابعناه على مدى 15 حلقة على منصة (شاهد) محط متابعتنا وبشغف، وهو يؤكد حقيقة أن الدراما التلفزيونية أصبحت من أكثر أدوات التغيير الاجتماعى فاعلية فى العصر الحديث، لما تتميز به من خصائص تفيد الانتشار الجماهيرى للتلفزيون من أدوات الجذب والتشويق والإثارة، وأصبحت تؤثر فى المجتمع المتلقي سلبا وإيجابا وتشكل اتجاهات الرأى العام لتشارك فى تغير العادات السلوكية وتعديل القيم الأخلاقية والحفاظ عليها من خلال تقديم القدوة والأنماط الإنسانية السليمة، ومعالجة المشكلات الاجتماعية بطريقة غير مباشرة تحقيقا للرسالة الإعلامية الهادفة فى المجتمع.
مسلسل (العين بالعين)، يشير إلى براعة انتزاع الانتاج الدرامي من الحياة نماذج وصور محددة، ثم يعالجها، ويعيد طرحها بصورة تتسم بالتكرار القادر على إبراز التناقضات الاجتماعية، وفي كثير من الأحيان تبث الدراما قيما جديدة، أو تعيد تقديم القيم بصورة جديدة بعد إخضاعها لعملية فك وتركيب وحذف لمكونات وإضافة أخرى، ومن ثم فالمشهد في الدراما ليس عبثيا، فالدراما ترسم من خلال أبطالها نماذج للاقتداء، راسمة حياتهم وإنجازهم، ومواطن التأسي فيهم حتى ولو كانت الشخصيات التي يلعبها الممثلون تحمل في طياتها قدرا من الشر المطلق/ كما أثبتت ذلك المخرجة (رانده علم).
وتبدو لي قصة (سلام كسيري) محبوكة إلى حد كبير بعناصر درامية متقنة في غالبية الحلقات، وإن شابها بعض المواقف الساذجة خاصة في مطاردات (عزام لنورا)، ومن ثم يخوض بعض شخوص العمل، معارك إنسانية على مستويات عدة وانعطافات وتقلبات جريئة، حيث يحمل كل منهم سرا دفينا يشكل كشفه صدمة كبرى، ضمن الأحداث التي غالبا ما تنقلب رأسا على عقب في حبكة عميقة، وتكشف أحداث المسلسل الكثير من الأسرار الصادمة المتعلقة بالشخصيات والتي يشكل كل (لغزا) منها صدمة كبيرة للجمهور ضمن أحداث شيقة وحبكة مميزة.
على أية حال تبدو لي عودة (سيرين عبد النور) بعد غياب يبدو اضراريا لتؤكد مكانتها كممثلة من الوزن الثقيل في الدراما العربية من خلال شخصية ربما تستفزها ولا تشبهها، لكنها واقعية، تعبر عن امرأة تعاني غبن العالم ليمثل لها هذا الدور رسالة تبدو مبطنة بنوع من الشجن، خاصة في مشاهدها الرومانسية البسيطة مع (عزام/ رمي عياش) الذي يقدم دور جديدا، وليس ككل الأدوار المفترض أن تمر في مسيرة الفنان لكنه تحدي نفسه للتجديد، حين قدم (عزام شخصية رجل دولة، لكنه أيضا إنسان من عواطف، صراع العقل والقلب سيترك وقعا ما في الأحدث المشوقة على جناح الإثارة.
ثنائية رامي مع سيرين، كشفت عن انسجام وتوافق كبير قطف (صادق الصباح) ثمارا جيدة في (العين بالعين)، حين تم اختيار صديقان، (سيرين) المحترفة يحلو التعاون مع (رمي) الذي وصف شخصية (عزام) بأنها تشبه إلى حد ما، وتشبه كل ضابط شريف بالتزامه وشغفه، وإن بدا قاسيا بحضوره العسكري، لكن عزام متعاطف ويخاف على الآخرين، كما جاء في أدائه الهادئ والسيطرة على انفعلاته بطريقة محكمة تؤكد تقدمه خطوات، بل قفزات كبيرة في عالم التمثيل، وكذلك يحسب حسن الأداء لكل من (جورج شلهوب، كريستين شويري، طوني عيسى، دانا حلبي، مجدي مشموشي، يوسف حداد، ختام اللحام)، ومن قبلهم جميعا المؤلفة (سلام الكثيري) والمخرجة (راندة علم) التي امتلكت القدرة على التحكم في خيوط اللعبة البوليسية، فبدا لنا (العين بالعين) مسلسلا يحمل في طياته الكثير من الإثارة والشغف اللذين جلبا لنا متعة المشاهدة.
في ثنايا حلقات (العين بالعين) هنالك أكثر من (ماستر سين)، لكني أتوقف بقدر من التأمل أمام مشهد ما قبل النهاية في الحلقة (15) حيث يقوم الرائد (عزام/ رامي عياش بشرح أبعاد قضية الفساد التي ظل طوال الحلقات راح ضحيتها العميد (غسان/ يوسف حداد) وظل طال الحلقات يبحث عن القاتل الذي اتضح أن وراءها مؤامرة على البلد لدخول الممنوعات، بينما على الطرف الآخر تلقى نورا مصرعة على سبيل إسكات الصوت الحر.
يقول (عزام) : بعد المصيبة الكبيرة اللي اتعرضنا لها واللي راح ضحيتها أرواح وخسائر كبيرة .. كلنا بنعرف ان صار فيه تشديد ومراقبة على المواد اللي بتفوت على البلد خاصة المواد الخطرة .. التشديد التزم في ناس بتهمها مصلحة البلد مثل العميد (غسان) .. اللي كان ضابط جمارك معروف وزمته نضيفة.. كرمالهيك شكيت من أول لحظة إنه معقول يكون عارف عن تسيب معين هو كان سبب مقتله .. حققنا بكل شيء من هذا النوع وبصراحة ماقدرنا نوصل لشيء محدد .. تابعنا ملابسات الجريمة والمشتبه فيهم، لوقت وصلنا للفيديو اللي صورته (نورا فارس) واللي أثبت تورط (راجي شديد) في قتل (العميد غسان) .. اللي بعده للأسف انقتل مجموعة من الأشخاص المحسوبين على ذات الجريمة .. لحين ما بانت مجموعة من الوثائق لبيت (العميد غسان) .. لقيتها مرته (رانده) .. ومحاولة مجموعة من الشركات تدخيل مواد بمواصفات مش دقيقة .. بحجة استعمالها لصناعات معينة مثل الأسمدة الزراعية أو أشياء تتعلق بقطاع التعدين والمحاجر والبناء.
ويشرح الرائد (عزام) فحوى الوثائق قائلا : واحدة من هذه الوثائق تتعلق بعلاقة شخص معين بمجموعة من هالشحنات .. طبعا ده لما يستعمل اسمه بشكل رسمي .. الواضح إن (العميد غسان) اشتغل لجمع هذه الوثائق ليثبت علاقة هذا الشخص بهالشحنات، ويشير إلى الشاشة قائلا : هادي حديد واجهة لأسماء كبيرة كتير بهالبلد .. تم توقيفه لأنه قدرنا خلال التحقيق نتأكد ان إله علاقة بالشحنة يللي كانت سبب بقتل (العميد غسان) .. بس مش هو اللي أمر بقتله .. لأن القاتل الحقيقي ببساطة بيكون رأفت سالم .. والد السيدة (رانده) حرم (العميد غسان شفيق) .. كلنا بنعرف هو وعائلته مين بيكونوا بالبلد .. بساطة ضحى بالعميد غسان ليخبي على أشياء ما حدا بيعرف شو ممكن تودي إذا ما كشفناها.
على الطرف الآخر يتصل (عزام) بـ (نورا) قائلا : وينك انتي؟
نورا : أنا وأصاحابي بالجريدة روحنا نعزي لازاهي وهلا خلصت.
عزام : نورا أن ما قلت لك لا تظهري؟.
نورا : ياعمي الزلمة مات بسببي .. أنا يللي ورطته بكل هالخبرية .. معقول ما روح أعزي فيه؟
عزام : تعرفي شو .. راح أحبسك عندي في الليل وما خليك تظهري أبدا .. موافقة؟
نورا بابتسامة خفيفة : موافقة .. ثم تصمت عن الكلام في ذهول.
عزام : نورا .. نورا .. نورا .. آلو؟
عندئذا يظهر موتوسيكل على ظهره اثنين ملثمين يطلقون الرصاص على نوارا التي استندت على مقود السيارة صريعة غارقة في دمائها .. ولسان حالها يقول : هلا قتلوني مثل كتار غيري من قبل .. ويمكن اغتالو الحقيقة بذاتها من زمان .. الحقيقة بعدو صوتها مخنوق ببلاد انكتب الموت فيها على كل صوت حر .. بس إذا صرخنا كلنا سوا شي نهار.. كيف حيقدورا يخبوا هالصوت على أمل يخبوا الحقيقة اللي بزمانهم .. ويعلم هالطير الحر راح غمض هالعين !!!.
يصل (عزام) بسيارته ليقف على باب سيارة (نورا) ويدخل في نوبة بكاء مرا .. لينتهي المشهد على رحيل (نورا) صاحبة الصوت اللبناني الحر.